قبل خمسة أشهر، رأى العونيون في نصيحة الرئيس سعد الحريري العماد ميشال عون بالتفاهم مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على الاستحقاق الرئاسي إهانة للجنرال، وتنصلاًً من إبلاغهم مباشرة بأن السعودية تعارض وصول عون إلى الرئاسة الأولى. بدت النصيحة الحريريّة، يومها، أشبه بطلب السيد حسن نصر الله من الحريري التفاهم مع آمر سرايا المقاومة في صيدا على عودته إلى رئاسة الحكومة، لمجرد أنهما من الطائفة نفسها.
يومها، أيضاً، كثر النقاش العوني ــ العوني على مختلف المستويات في شأن احتمالات التفاهم مع القوات، وبدا مستحيلاًً لأسباب عدة، أهمها:
أولاً، استحالة قبول جعجع بعون رئيساً. ففي معراب ينظرون إلى التيار الوطني الحر بوصفه حالة سلطوية تخسر كل بضعة أشهر واحدة من أوراق قوتها. وهم ينتظرون مصارحة عون لجمهوره باستحالة فوزه بالرئاسة الأولى حتى ينهار الجزء الأكبر من الحالة العونية. وما من عاقل عوني يتخيل، بالتالي، أن يبادر «الحكيم» إلى إنعاش التيار بتسليمه رئاسة السلطة وإطلاق يد الجنرال في الوزارات والتعيينات وقانون الانتخاب وغيره.
ثانياً، ظهور العونيين أمام الرأي العام في مظهر من يستجدي الرئاسة الأولى من القوات.
ثالثاً، عدم وجود ما يوحي جديّاً بتغيير في الموقف السعودي تجاه عون ينجم عنه تغيير في موقف جعجع، مع العلم بأن العونيين حاولوا أن يضعوا الحوار مع القوات بداية في خانة البحث السعودي عن مخرج يحفظ لجعجع كرامته السياسية.
رابعاً، عدم وجود أي قواسم سياسية مشتركة بين الفريقين تتيح لهما تحقيق تفاهمات مؤثرة، بغض النظر عن الاستحقاق الرئاسي، طالما ينتمي كل منهما إلى مشروع سياسي. وقد سبق لجهود البطريرك بشارة الراعي أن أفضت إلى مجموعة اتفاقات سياسية، من التهدئة الإلكترونية إلى قانون الانتخاب، ثبت بعدها أن القوات لا تستطيع الإيفاء بتعهداتها بشأنها.
خامساً، خسارة العونيين، في حال انفتاحهم على القوات، سلاحهم الرئيسي في شد عصب جمهورهم. فبعد مصالحة النظام السوري، والتفاهم مع حزب الله، ومحاباة الرئيس نبيه بري وتناسي الأجراس المخبأة في أقبية المختارة، واكتشاف براءة الرئيس سعد الحريري من «الإبراء المستحيل» وتراجع نفس الإصلاح والتغيير، لم يبقَ للعونيين سوى التباهي بأنهم أفضل من القوات. أما سعيهم اليوم ليكونوا والقوات صفاً واحداً فيحرمهم هذه، ويفتح الباب أمام مشاكل جدية في البيت العوني مع من دفعوا أثماناً باهظة للخلاف مع القوات، ويؤدي إلى ابتعاد القوميين وقدامى الأحرار والقوات ومجموعات أخرى عنهم، مع العلم بأن التيّار أثبت حاجته لكل هؤلاء حتى يتقدم على خصومه بفارق ضئيل.
رغم هذا كله، وجد أمين سر تكتل التغيير والإصلاح النائب ابراهيم كنعان في الحوار مع المستقبل فرصة للعودة إلى الأضواء بعد انتكاستي «الإبراء المستحيل» وسلسلة الرتب والرواتب وتراجع الاهتمام الشعبي والسياسي بلجنة المال والموازنة. حصل الوزير جبران باسيل على فرصته كاملة لإقناع الحريري بانتخاب عون رئيساً، فماذا يمنع منح كنعان فرصة مماثلة مع القوات؟ هذا، أقله، يسهم في رفع معنويات الجمهور العوني مجدداً بعد الصفعة الحريرية. آن أوان نفض كنعان الغبار عن علاقته بمسؤول الإعلام والتواصل في القوات اللبنانية ملحم رياشي. يبحث الأخير عن دور ما في معراب يتجاوز حراسة الفاكس و»تكريم» الصحافيين. وبعيداً عما يردده علناً، هو الأكثر تدقيقاً في علاقة عون مع الرأي العام ووسائل تفاعله معه. لا علاقة لرياشي بعنتريات النائب أنطوان زهرا ووجهي النائب جورج عدوان. هو «يعرف عدوه» منذ كان يعمل في مكتب الوزير السابق الياس المر، ولديه خططه لهدم ما تبقى للعونيين. وعليه، انطلق الحوار.
انشغلت القوات حتى الآن بتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، قبل إعلان النتيجة الوحيدة للمحادثات: لا اتفاق على انتخاب عون رئيساً. وبعيداً عن مشاعر المصلّين للوحدة بين الأحزاب المسيحية، لا يمكن التفكير بنقطة إيجابية واحدة من هذا الحوار تصب في مصلحة التيار، فيما يمكن تعداد هدايا عدة يقدمها العونيون للقوات:
أولاً، إعطاء الرأي العام انطباعاً بأن فوز عون بالرئاسة الأولى رهن بموافقة القوات.
ثانياً، تتويج جهود معراب للظهور بمظهر الزعامة المسيحية الثانية، عبر الإيحاء بأن الاتفاق الثنائي بين الرابية ومعراب يختزل الساحة السياسية المسيحية.
ثالثاً، تجاهل العونيين لتجاربهم السلبية السابقة مع القوات في ما يخص قانون الانتخاب والتمديد للمجلس النيابي والتمثيل المسيحي في السلطة، وإبداؤهم الاستعداد لتبييض صفحة القوات عبر إيجاد عبارات مشتركة جديدة.
رابعاً، إعطاء القوات فرصة القول إن العونيين أداروا ظهرهم للتفاهم المسيحي ــــ المسيحي (المنتظر ممن ينظرون إلى الأحزاب كأخويات دينية) بمجرد أن رفضت القوات انتخاب عون رئيساً.
في النتيجة، لعل جعجع لا يقوم بمناورة. ولعله يحتاج، فعلاًً، إلى وسطاء وعشرات الاجتماعات ليرد أخيراً زيارة عون له في سجن وزارة الدفاع في اليرزة. ولعل ضميره يلح عليه للموافقة اليوم على ما رفضه قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً. ولعله قرر دخول التاريخ بوصفه عراب انتخاب خصمه رئيساً للجمهورية. لكن هناك في التيار الوطني الحر من هم متصالحون مع أنفسهم وماضيهم إلى حد القول إنهم لا يرغبون في رؤية عون رئيساً، ما دامت معاملة الرئاسة الأولى تتطلب كل هذه التواقيع.