«إن الطبقة، التي تمثل المصالح الثورية للمجتمع، تجد في وضعها الآني مادة الحراك الثوري»كارل ماركس


لقد كان انتصار اليسار الراديكالي، يوم الأحد في اليونان مدوياً، ليس فقط لأن حزباً يسارياً وصل إلى السلطة في أوروبا، بل لأن فوز Syriza، وعلى الرغم من صغر حجم اليونان في اقتصاد منطقة اليورو، أعلن بداية حقبة جديدة في السياسة الأوروبية، بعد عقود من الجمود السياسي، منذ إعلان الاشتراكيين الفرنسيين تخليهم عن سياساتهم اليسارية وبدء التحول نحو الطريق الثالث في صفوف الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، الذي انتهى بارتمائهم في أحضان النيوليبرالية.

إن معالم الحقبة الجديدة تتجلى على ثلاثة مستويات كبرى:
أولاً، أشّر هذا الانتصار الى أن الشعوب الأوروبية يمكن أن تثور في وجه الأسواق المالية بعد سنوات من تحكّم هذه الأسواق في السياسة في أوروبا، وإلى حد كبير في أنحاء العالم، حيث كان السؤال الأول الذي يُسأل عشية أي استحقاق انتخابي أو ديمقراطي هو «ماذا تريد الأسواق؟» و»كيف ستتعامل الأسواق؟». قبل أن تسأل «ماذا تريد الشعوب؟». فالأسواق المالية تحكمت في فوائد السندات الحكومية وفي سوقها (أي امكانية شرائها من جانب المستثمرين أو عدمه)، وفي ظل مستويات عالية من عجوزات الخزينة والدين العام في دول أوروبية عديدة، كان يمكن لهذه الأسواق أن تحوّل أي نتيجة سياسية لعملية ديمقراطية إلى كارثة اقتصادية.
لم يأبه اليونانيون يوم الاحد بما كان يريد هذا الشبح المخيم على صدور الأوروبيين. لم يأبهوا، ليس لأنهم لا يدركون، كما يظن البعض، بل لأنهم في السنوات الخمس الماضية كانوا يخوضون المعركة يومياً ضد هذه الأسواق ومطالبها التقشفية وذاقوا الأمرين منها من بطالة وخفض للأجور وللتقديمات الاجتماعية وانهيار اقتصادي كامل لعشرات آلاف الأسر واهانة لليونان، كما ذكر رئيس الوزراء تسيبراس. هم لم يكونوا يحاربون المجهول، بل هم، بتراكم نضالهم اليومي، هزموا أقوى مؤسسة تجسّد هيمنة الرأسمال على الإنسان.
ثانياً، كسر الانتصار موجة التحول نحو اليمين والفاشية التي تسارعت منذ الأزمة المالية في 2008. وهذه المسؤولية التاريخية لليسار بمحاربة الفاشية تزداد الحاحاً اليوم حتى أكثر منه في ثلاثينيات القرن الماضي، لأن الاتحاد السوفياتي الذي هزم الفاشية آنذاك لم يعد موجوداً. الفاشية اليوم، كما بالأمس، تلعب على غرائز البروليتاريا الرثة والبورجوازية الصغيرة في خطاب معادي لأوروبا وللإسلام كغطاء لعدائها التاريخي مع الشيوعية واليسار. تأمل الفاشية أن تلعب الأزمة الاقتصادية لمصلحتها كما حصل بعد الكساد العظيم في 1929. وما الركود المتسارع في حال تجذر انكماش الأسعار (deflation) في أوروبا إلا الحفاز (catalyst) في هذه المواجهة. وكما قال الاقتصادي الحائز جائزة نوبل لورانس كلاين عام 1947 في كتابه الثورة الكينزية في سياق تحليله لظاهرة الانكماش في الرأسمالية «إن الفاشية تمثل أسوأ مراحل الرأسمالية. إنه الشكل الذي سيتخذه المجتمع الرأسمالي، إلا اذا نجحنا في تحقيق الاصلاحات الكينزية أو اقتصاد اشتراكي، إذ إننا باتكالنا على السيرورة الطبيعية فإن قانون الحركة الاقتصادي للرأسمالية سيقودنا إلى الطريق نفسها التي اتبعتها المانيا أخيراً». كم يبدو آنياً هذا القول في خضم الأزمة الأوروبية اليوم.
ثالثاً، إن فوز Syriza يؤشر إلى بدء انتهاء عصر اليورو الذي أوصل منطقة اليورو الاقتصادية والكثير من دولها إلى حافة الركود المتسارع والانكماش. لن تنفع خطة التسيير الكمي (أو طبع العملة) الذي اطلقه المصرف المركزي في 22 الجاري في ايقاف هذا التدهور. فقد تأخر المصرف كثيراً ولم تكن هذه الخطة إلا عملية استباقية للانتخابات اليونانية، وذلك لتوفير السيولة في حال بدء اشارات انسحاب اليونان من اليورو بالتأثير على الأسواق الأوروبية. إن انسحاب اليونان من اليورو هو الطريقة الوحيدة لخروجها من الكساد، وإعادة إطلاق النمو الاقتصادي لامتصاص الــ 25% بطالة (60% بين الشباب!) فلا تخفيف التقشف ولا اطالة أمد الدين سينفعان. في هذا الاطار يمكن لما طالب به 18 اقتصادياً شهيراً في بيان في الفايننشال تايمز في 23 الجاري ان يبقي اليونان في اليورو، إذا نفذت الترويكا ما طالبوا به من فترة سماح أولية لمدة خمس سنوات، ومن ثم البدء بدفع الديون عند وصول النمو إلى 3% سنوياً، وبإرسال مساعدات مالية للاستثمار، وخصوصاً في مجال التصدير. طبعاً لن تقبل الترويكا هذا، وسيكون الخيار الوحيد بالخروج من اليورو وهو أصلاً الشجرة التي تعلق عليها اليونان اليوم.
فاز اليسار اليوناني بمواجهة الأسواق والفاشية والامبريالية الجديدة، وستمتد هذه الحركة إلى بلاد أوروبية عديدة، فحركة Podemos الاسبانية اليسارية وصلت إلى 28% في استطلاعات الرأي الأخيرة، مؤذنة بانتهاء ثنائية يمين ويسار والوسط في اسبانيا ايضاً. في تحليله لثورات 1848 أشار ماركس إلى أهمية قارية الثورة آنذاك عندما قال «كيف لفرنسا ان تكسر قوانين (علاقات الإنتاج الرأسمالية) من دون حرب ثورية أوروبية. اليسار اليوم هو ليس ضد أوروبا بل هو تجسيد لأوروبا الحقيقية، أوروبا عصر التنوير واليعاقبة وثورات 1848 وكومونة باريس والثورة البلشفية والمعركة ضد الفاشية وصولاً (في المستقبل) إلى التحرر الأخير للإنسان من سلطة الرأسمال.