مرّت عملية القرصنة الخطيرة التي قامت بها إسرائيل لإحدى مفردات التراث اليهودي العراقي ممثلة بنسخة نادرة وقديمة من التوراة بسلاسة وهدوء وتواطؤ مفضوح من قبل دولة الاحتلال، الولايات المتحدة، وسلطات إقليم كردستان، والسلطات الأردنية، وصمت مريب من قبل السلطات العراقية الاتحادية والوسط الثقافي العراقي إلا ما ندر. هذه وقفة عند خلفيات الموضوع وتداعياته.
النسخة المذكورة من التوراة، والمعروفة بالنسخة العراقية من أسفار العهد القديم، والمكتوبة بعصير الرمان المركز على جلد حيوان الأيل، استولت عليها قوات الاحتلال الأميركية ضمن ما استولت عليه وسلم من التدمير الممنهج، وقيل حينها إنها نقلت ضمن العديد من الكنوز التراثية العراقية وكميات هائلة من أرشيف الدولة العراقية السري الى دولة الاحتلال (بغرض الترميم والإصلاح)! ويبدو أن هذه المعلومات لم تكن صحيحة، وأن عملية استهداف التراث العراقي أكثر خطورة ودهاء، فقد كشفت السلطات في دولة إسرائيل خلال حفل كبير أقامته في مقر وزارة الخارجية عن إتمام ونجاح عملية القرصنة وعرضت تلك القطعة التراثية العراقية المهمة قبل أيام. وقد اعترف بيان الخارجية الإسرائيلية أن المخطوطة وصلت «الى مبنى وزارة الخارجية من كردستان عبر بغداد وعمان حيث من المقرر استخدامها للصلاة اليومية هناك» بعد أن «تم إصلاحها، وهي جاهزة لاستخدامها في الطقوس من قبل هيئة الكتاب المقدس في القدس»، موضحاً أنها «وضعت في حقيبة قديمة جُلبت من حلب الى وزارة الخارجية الإسرائيلية». ولم يترك وزير خارجية إسرائيل المتطرف ليبرمان المناسبة تمر من دون أن يترنم بإحدى «الأغاني» الصهيونية العتيقة فـ «اعتبر رحلة المخطوطة من كردستان الى بغداد الى عمان ومن ثم الى القدس تذكيراً بمصير الأمة اليهودية».
الموقف الحكومي الرسمي لم يخرج إلى العلن إلا بعد بضعة أيام من الحادث

يعتقد البعض، منهم الكاتب العراقي عقيل الأزرقي، وهو من النادرين الذين علقوا على هذا الحدث، أن الإعلان الإسرائيلي فضح أكذوبة الحكومة العراقية التي زعمت أن إرسال التوراة ضمن مواد تراثية عراقية أخرى إلى الولايات المتحدة لغرض الترميم والإصلاح. ونقل الأزرقي عن موقع «ذي تايمز أوف إسرائيل» الإسرائيلي قوله «إن قصة إرسال التوراة الى الولايات المتحدة لغرض الإصلاح هي محض كذب. حيث تبين أن النسخة لم ترسل إلى الولايات المتحدة بل حولت إلى السفارة الإسرائيلية في عمان منذ ذلك الوقت حتى عام 2011، بعد حادثة الهجوم على السفارة الإسرائيلية في القاهرة من قبل المتظاهرين المصريين حولت هذه النسخة الى إسرائيل».
بعد الاحتفال الإسرائيلي بنجاح عملية القرصنة، رانَ على الجهات الرسمية العراقية صمت مطبق غريب، ولم يصدر رد فعل فوري على ما نشر، وامتد هذا الصمت ليشمل الساحة الإعلامية والثقافية العراقية إلا ما ندر، ويمكن التذكير هنا بأن وزير السياحة والآثار العراقي عادل شرشاب كان قد أكد في التاسع عشر من كانون الثاني 2015 أن «الأرشيف اليهودي كان يفترض أن يرجع إلى العراق منذ 2005 وتم إخراجه تحت عنوان الصيانة»، وبيّنَ أنه «تراث عراقي وسنواصل الجهود من أجل استرجاعه». ولكن الوزير لم يقل شيئاً يعقب به على عملية القرصنة الإسرائيلية هذه. وزارة الثقافة العراقية بدورها سكتت تماماً على الحادثة رغم أنها كانت قد أعلنت في 13 أيار 2010 أن اتفاقاً أجري بين العراق والولايات المتحدة، يقضي باستعادة الدولة العراقية للأرشيف اليهودي العراقي وملايين الوثائق التي نقلها الجيش الأميركي من بغداد عقب اجتياح العراق عام 2003، من بينها الأرشيف الخاص بحزب البعث المنحل ومفردات التراث العراقي القديم.
وبعد بضعة أيام على انتشار خبر السرقة نُشرت تصريحات لإحدى عضوات اللجنة الثقافية في البرلمان العراقي تدعو فيها الخارجية العراقية إلى الاحتجاج لدى واشنطن على ذلك. الوكالة التي نشرت الخبر يملكها فخري كريم، رجل الأعمال وكبير مستشاري الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني، حاولت تقديم رواية أخرى لما حدث فقالت إن طريق وصول التوراة «كان غامضاً» وإن ما حدث هو «تسريب لأجزاء من التوراة» رغم أن الخارجية الإسرائيلية أعلنت في احتفالها البهيج أنها وصلت من بغداد إلى كردستان فالأردن ثم إلى تل أبيب. إن صاحب هذه الوكالة – فخري كريم – شخص معروف بتوجهاته الممالئة لدولة إسرائيل ولكن من دون ضجيج، وكان قد زار بصحبة مسؤول حزبي عراقي مقر اللوبي الصهيوني «إيباك» في واشنطن، كما ذكر الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف، وكنا قد توقفنا عند هذه الحادثة مفصلاً على صفحات «الأخبار» (العدد 2088، 27/8/2013).
في اليوم الذي صدر فيه تقرير «المدى»، نشر أشهر الصحافيين فيها، سرمد الطائي، توبيخاً شديد اللهجة لمن احتجوا على سرقة التوراة العراقية فاتهمهم بالحمق، وقال ما معناه أن اليهود الذين طردهم العراقيون من بلادهم بمختلف الأساليب استرجعوا توراتهم! وقد أثارت هذه المداخلة التي يكررها الإعلام الصهيوني غالباً، ويرفضها حتى بعض اليهود العراقيين الذين يعيشون في إسرائيل أو خارجها (اقرأ مثلاً ما كتبه ساسون صويمخ في كتابه «الرحيل عن جنة العراق» وروايات الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش الذي كتب جميع أعماله الروائية باللغة العربية وحواراتها باللهجة البغدادية اليهودية ورفض أن يكتب شيئاً باللغة العبرية واعتبر نفسه عراقياً حتى آخر يوم من حياته القاسية في دولة إسرائيل)، أثارت ردود فعل قوية على قلتها في مواقع التواصل الاجتماعي.
إن تهافت حجج أصحاب منطق «اليهود استرجعوا توراتهم» واضح للعيان، وهو منطق خطير ومريب فهو يبرئ الاحتلال وحلفاءه في الحكم العراقي الاتحادي أو في الإقليم الكردي ودولة إسرائيل من سرقة قطعة تراثية عراقية مهمة، نسخت في العراق قبل مئات السنوات من قيام الكيان الصهيوني أولاً، وهو ثانياً يبرّر ويسوّق مقدماً أية عملية قرصنة إسرائيلية قد تحدث مستقبلاً لمفردات تراثية عراقية أخرى قد تشمل مدناً تحوي أضرحة أو مقامات لأنبياء بني إسرائيل في العراق كبلدة «العزير» التي تضم ضريح النبي العزير «واسمه التوراتي عزرا» في محافظة ميسان الجنوبية، وبلدة الكفل التي تضم ضريح النبي حزقيال واسمه القرآني «ذو الكفل» في محافظة بابل. وإذا ما مُدّد هذا المنطق المعوج إلى نهاياته فهو سيكون مقدمة تبريرية للتفريط بكل هذا التراث وبغيره لصالح دولة مفتعلة قامت على الظلم والعدوان والحروب ولا يزال ضحاياها، وهم بالملايين، يعيشون حتى اليوم في مخيمات اللجوء القاسية خارج وداخل بلادهم وسط صمت عالمي شامل.
الموقف الحكومي العراقي الرسمي لم يخرج إلى العلن إلا بعد بضعة أيام من الحادث فقد صدر تصريح لوزير السياحة العراقي طالب فيه واشنطن بإعادة المخطوطة التوراتية إلى العراق معتبراً ما حدث عملية «استحواذ على جزء من الموروث العراقي» مكرّراً مزاعم سابقة بأن المخطوطة كانت في واشنطن بغرض الترميم وهذا ما يكذبه أيضاً تصريح النائب العمالي الإسرائيلي موردخاي بن بورات، وهو أحد المنحدرين من يهود العراق، والذي قال إن «مسؤولين حكوميين في العراق هم الذين أهدوا الكيان الصهيوني بعضاً من المخطوطات الاثرية الثمينة». والواقع فإن رواية بن بورات لا يمكن تكذيبها تماماً وهي لا تتناقض مع كون ما حدث عملية سرقة وقرصنة حدثت بالتواطؤ مع بعض من «أهل الدار» مع التذكير بما أعلنه ليبرمان عن خط انتقال المخطوطة من بغداد إلى كردستان فالأردن ثم تل أبيب!
إن سرقة آثار العراق ليست حدثاً جديداً لا سابق له، بل هي ممارسة قديمة ومتكررة دأبت دول غربية عديدة وفي مقدمها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة على القيام بها منذ أكثر من قرن. يسجل الباحث في مركز الدراسات الإسلامية بجامعة لندن، محمد السيد دغيم، في بحث بعنوان «مئة وعشر سنوات من اللصوصية الأميركية للتراث العراقي»، أن هناك أجنحة كاملة في متحف اللوفر بباريس ومتحف برلين بألمانيا والمتحف البريطاني تحوي بالكامل آثاراً عراقية، وأنه في حالة استرجاع الآثار العراقية الموجودة فيها، فإن أجنحة هذه المتاحف ستغلق بالتأكيد كونها قائمة على ما سرق من آثارنا خلال المراحل الزمنية الماضية. ويقدر هذا الباحث عدد القطع الأثرية المسروقة بأكثر من مليون قطعة. حتى أن جامعة أميركية واحدة هي جامعة بنسلفانيا، كما كتب، «غنمت ما يزيد على خمسين ألف لوح من ألواح العراق، وعدداً كبيراً من قطع الآثار المتنوعة التي تلقي الأضواء على تاريخ بلاد ما بين النهرين، وتفند الكثير من الدعوات التوراتية التي يروج لها الصهاينة».
لقد ضرب المحتل الأميركي ضربته الكبرى بعد حرب الاحتلال عام 2003 واستولى على أغلب مقتنيات المتاحف العراقية التي يبلغ عددها ثلاثة وثلاثين متحفاً. والواقع فإن الثراء الهائل للأراضي العراقية وغناها بالآثار الحضارية القديمة المهمة ليس موضع جدل، ولكنه قد يفاجأ الجميع حين يتحول إلى أرقام ومعطيات فبحسب تصريح رئيس المكتب الوطني للآثار العراقية السابق جابر خليل إبراهيم في مارس/ آذار 2003 فإن علماء الآثار يعتقدون «أن هناك 500 ألف موقع أثري في العراق غير مكتشفة ومدروسة علمياً حتى الآن، إلى جانب عشرة آلاف موقع مكتشف ومسجل، وبين المواقع غير المعروفة هناك 25 ألف موقع شديد الأهمية. وقد أجريت عمليات تنقيب في 15% فقط من الأراضي العراقية يقع معظمها بين الفرات ودجلة، وتعتبر هذه المنطقة مهد الإنسانية واحتضنت ستة آلاف عام من الحضارات السومرية إلى الأكادية إلى البابلية إلى الآشورية والعباسية». أما في فترة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 فكانت كارثة حقيقة للتراث الحضاري العراقي وهذا ما سنتوقف عند بعض تفاصيله في مناسبة مقبلة.
* كاتب عراقي