منذ عقود تغيب ثقافة الأرقام في سياسات الدولة اللبنانية. فالأرقام هي معطيات تنتج منها معلومات خطيرة تسعى القوى المسيطرة على الدولة إلى إخفائها. لذلك، يتعذّر فعلياً إجراء دراسة دقيقة عن الكثير من الأمور الشائكة. قد يكون إحصاء عدد السكان أخطر هذه الدراسات، لما له من انعكاسات على الحياة السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية، ولما لهذه الأرقام من علاقة بإرث الحرب الأهلية وسياسة تفريغ الدولة من القدرات. دراسات عدّة صدرت عن منظمات مختلفة، إلّا أن جميع الأرقام المعلنة والواردة هنا تدخل في إطار التقديرات المبنية على تحليلات وملاحظات.
بحسب خبراء تحدثت إليهم «الأخبار»، يضم هذا البلد الصغير أقلّه 6 مجموعات سكانية ذات حجم كبير: لبنانيين، سوريين، فلسطينيين، عمال أجانب، عاملات منازل ومكتومي القيد، وبالمقابل يصدّر كتلة كبيرة من اللبنانيين إلى الخارج. لهذه «الخلطة» السكانية تأثيرات وانعكاسات عديدة في ظل غياب سياسات سكانية تقوم على مبدأ الاندماج.
«خلطة» سكانية
قدّرت مديرية الإحصاء المركزي عام 2007 عدد السكان المقيمين في لبنان (لبنانيين ونسبة قليلة جداً من غير اللبنانيين باستثناء المخيمات الفلسطينية) بـ 3 ملايين و759 ألف نسمة. اليوم، بعد مرور 8 سنوات، لا نعرف فعلياً عدد اللبنانيين المقيمين، لكنّ التقديرات تبدأ بـ 4 ملايين و200 ألف نسمة، وتصل إلى 4 ملايين و700 ألف وفق تقديرات البنك الدولي. إلّا أنه بين الرقمين هناك مجموعة حجمها 500 ألف شخص يتعامل معها صانعو السياسات بالطريقة التي تخدم مصالحهم. الرقم الأكثر اعتماداً لدى الخبراء هو 4 ملايين و200 ألف قياساً إلى نسبة نمو السكان. يتساوى تقريباً عدد الإناث والذكور في الهرم السكاني اللبناني وفق الباحث في الجامعة الأميركية جاد شعبان، الذي شارك في إحصاء عن مختلف المجموعات السكانية في لبنان عام 2011.
التركيبة السكانية الحالية
تشكّل مجتمعاً متفجراً 70% منه فقراء ومهمشون

يشكّل السوريون (حالياً) ثاني أكبر كتلة سكانية بعدد يقارب مليوناً و100 ألف نسمة. يرفض شعبان ما يشاع عن أن الأزمة السورية أدخلت إلى لبنان مليون شخص جديد، يقول: «عام 2011 قمنا بتقدير عدد السكان، وتبيّن أن هناك 400 ألف عامل سوري. آنذاك كان الجميع راضين عنهم، لأنهم يستغلونهم في العمل. عند بدء الأحداث في سوريا كان من الطبيعي أن يحضر هؤلاء عائلاتهم لحمايتهم». هذا يفسّر سرّ لجوء عدد كبير من الأسر السورية إلى لبنان من مناطق بعيدة نسبياً عن الحدود. بحسب شعبان، إن عدد الذين لجأوا إلى لبنان يقارب 700 ألف فقط، وهم بمعظمهم عائلات العمال الذين كانوا يعملون هنا قبل الأزمة، وتسجلوا جميعهم لدى مفوضية شؤون اللاجئين، ما جعل العدد يصل إلى هذا الحد. الـ 400 ألف عامل هم ذكور تراوح أعمارهم بين 20 و 50 عاماً، أمّا الـ700 ألف الذين لجأوا، فهناك نحو 60% منهم إناث، مع وجود عدد كبير من الأطفال. هذا العدد الضخم دخل فجأة إلى لبنان، ما خلق هرماً سكانياً نادراً جداً لا يحدث إلا في حالات الحروب.
يحتل الفلسطينيون جزءاً كبيراً من الهرم السكاني في لبنان، إذ بلغ عددهم عام 2011 ـ وفق شعبان ـ 300 ألف نسمة، يضاف إليهم 50 ألفاً لجأوا من سوريا، ما يجعل العدد الإجمالي 350 ألف فلسطيني. يلفت شعبان إلى أن الهرم السكاني للفلسطينيين مشابه للهرم اللبناني، إذ تتساوى أعداد الذكور والإناث، وجزء كبير منهم يقع في الفئة العمرية ما دون 30 عاماً.
يدخل أيضاً ضمن الهرم السكاني فئة العمال الأجانب (ولا سيما من مصر والسودان وبنغلادش وسيريلانكا…) التي تضم 200 ألف نسمة عام 2011، ويقدّر شعبان أنها أصبحت اليوم 250 ألف نسمة، معظمهم ذكور من الفئة العمرية الواقعة بين 20 و 50 عاماً. أمّا عاملات المنازل، فقد كنّ نحو 250 ألفاً عام 2011، وأصبحن اليوم نحو 350 ألفاً، وهو رقم يشمل اللواتي يملكن إقامات، واللواتي دخلن بطريقة غير شرعية، واللواتي لم يجددن إقاماتهنّ. تراوح أعمارهن أيضاً بين 20 و50 عاماً. يلفت شعبان إلى فئة سكانية أخرى مهمّشة، هي مكتومو القيد، التي تضم ـ حسب تقديراته ـ نحو 150 ألف نسمة، 70% منهم تحت سن الثلاثين.

بلد الـ 4 ملايين فقير

هكذا إذاً، يوجد في لبنان حالياً مجموعات سكانية لا تتجانس في ما بينها ولها خصائص معيّنة وتأثيرات كبيرة. هذا العدد الكبير من السكان المكتومين لا يشكل صدمة بالنسبة إلى شعبان، «فالبلد كان دائماً في تقلّص وتمدّد سكاني دائمين». يشرح شعبان أن موضوع التغيّر الديموغرافي ليس جديداً، فعندما كان لبنان مستقراً، أي قبل عام 2005، كان البلد يزداد كل صيف بمعدل مليون ونصف إلى مليوني سائح، ما كان يشكل ضغوطاً كبيرة على السير، الكهرباء، المياه… لكن آنذاك لم نكن نرى هذه العنصرية والتوترات، لأن هؤلاء السياح كانوا يأتون لصرف أموالهم، بينما معظم الموجودين في البلد اليوم يُعَدّون فقراء، وهو ما خلق هذه التوترات. فالتوزّع الطبقي لهؤلاء واضح، وفق الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية حسان حمدان، حيث إن أكثر من 80% من اللاجئين السوريين والفلسطينيين و95% من العمال والعاملات الأجانب إضافة إلى 30% من اللبنانيين ينتمون إلى الطبقة الفقيرة والمهمشة. هذه التركيبة تكوّن مجتمعاً 70% منه فقراء، على الأقل. في الحالات الطبيعية، يظهر الخطر المتمثل بالانفجار الاجتماعي. يؤكد شعبان أن البلد مقسوم طبقياً، لأن الموضوع الديموغرافي ليست أهميته بالعدد، بل بالخصائص. فهو مرتبط بخوف طبقة معينة من تكاثر الفقراء لينتقل البحث إلى قدرة البلد على الاحتمال.

مجتمع «متفجّر»

على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، يوضح حمدان أن النسيج الاجتماعي لهذه الفئات غير متجانس حتى في ما بينها، فالعلاقات بين اللبنانيين يشوبها التوتر والقلق بسبب غياب آليات اندماج تُسهم في تجاوز الانقسامات الأولية، فكيف بالأحرى ستكون علاقتهم مع الجماعات الأخرى. لم يساعد النموذج الاقتصادي في لبنان على تعزيز عملية الاندماج والانخراط في المجتمع كفرد منتج، بل كان يجري التعامل مع اللبنانيين بصفتهم سلعة للتصدير، وبسبب هذه السياسة جرى تفكيك الأرياف وإهمالها وإحضار سكانها إلى المدينة، كذلك شُجِّع الشباب على الهجرة بحثاً عن العمل. باختصار، هذا النموذج القائم على تشجيع الريوع لن يساعد في تمتين العلاقات بين اللبنانيين، وبينهم وبين المجموعات السكانية الأخرى. وبالتالي، إن أي عنصر سكاني «طارئ او مستجد» سيشكّل، برأي المقيمين، خطراً على الموارد القليلة للبنانيين، ما يهدد بانفجار الصراعات. يؤكد حمدان أن العنصرية ستزداد، وستتضاعف ظاهرة التهميش الاجتماعي في الأحياء الفقيرة، حيث سترتفع معدلات التسوّل والإتجار بالبشر، ما يعني فعلياً أننا أمام مجتمع متفجّر.
يرى شعبان أنّ جميع الفئات غير اللبنانية لديها أثر إيجابي على الاقتصاد اللبناني من ناحية الاستهلاك، ما عدا العمال السوريين الذين يستهلكون بشكل قليل قبل لجوء أسرهم إلى لبنان. الفلسطينيون يصرفون بالسنة، حسب دراسة صادرة عام 2010، «600 مليون دولار في المناطق». أما اللاجئون السوريون، فيحصلون على مساعدات تُصرف جميعها في أسواق لبنان، والأرقام الصادرة عن المفوضية وبرنامج الأغذية العالمي تثبت ذلك. يشير شعبان إلى أن تأثير العمال الأجانب والسوريين والعاملات المنزليات على سوق العمل اللبناني هو تأثير غير مباشر، لأنهم لا يتوجهون بمعظمهم إلى المهن التي يتركز طلب اللبنانيين عليها. لكن حمدان يرى أن السوريين لن يكتفوا بالمساعدات مع مرور الوقت، بل سيبدأون بالعمل. تشير تقديرات الأمم المتحدة (لم تُنشر بعد) إلى 100 ألف شخص عامل من الوافدين الجدد، يعملون في مختلف المجالات، وهؤلاء يتنافسون مع فئتين: العمال اللبنانيين والعمال السوريين الذين كانوا موجودين قبل عام 2011. تتنافس هذه الفئات الثلاث على أعمال ذات إنتاجية متدنية مثل البناء، المطاعم، الزراعة، والخدمات البسيطة.
يقسّم حمدان اللاجئين إلى 3 فئات إقتصادية: الفئة الأولى هي يد عاملة غير نظامية تعمل في قطاعات نظامية من دون أي حماية وآليات ضبط، يستغلها أصحاب العمل. الفئة الثانية تضم الحرفيين الذين فتحوا مؤسسات صغيرة ويشكلون عنصر مزاحمة على الفئات الشبيهة لهم من اللبنانيين، وهذه الفئة هي الأكثر قابلية للتفجير، لأنها ركيزة القاعدة الاجتماعية للولاء الطائفي والسياسي. والفئة الأخيرة هي البورجوازية السورية، وهي نوعان: مجموعة مرتبطة بالإنتاج السوري لم تستطع الاستثمار في لبنان، فتحولت إلى الريع العقاري، ومجموعة التجار الذين تمكنوا من الاستمرار في عملهم.
السياسة السكانية في لبنان مرتبطة كثيراً بالسياسة الاقتصادية وسياسات العمل، وإذا أرادت الدولة تخفيف عدد المقيمين، فعليها اتخاذ قرارات اقتصادية عادلة؛ بمعنى أن النقاش في هذا الموضوع لا يمكن أن يحصل قبل إعطاء هذه المجموعات حقوقها وتنظيمها والكف عن استغلالها. أما الاستمرار على هذه الحال، فيعني التوجّه سريعاً إلى الهاوية.