قبل أسابيع، أعلن قائد الأوركسترا الأرمني، المولود في لبنان والمقيم في لندن، فارتان ملكونيان أنه سيقوم بمغامرة ذات هدف نبيل، رغم خطورتها الكبيرة. قال إنه سيمشي على درب أسلافه الذين هربوا من الإجرام العثماني. صاحبة الفكرة هي ابنته فيرونيك، الطالبة في العلوم الاقتصادية والبالغة 21 سنة. حدّد الثنائي شهر شباط (فبراير) الجاري موعداً للانطلاق من دون تحديد اليوم، لكن لغاية كتابة هذه السطور، ورغم الرصد اليومي لأخبار هذه المغامرة، لم نعرف إن انطلقا أم بعد. من هنا، قرّرنا أن نفرد مساحة لهذه المسألة في صفحاتنا اليوم الذي يصادف منتصف الشهر.
ملكونيان هو قائد أوركسترا مغمور، لكنّه مرموق. هو أحد قادة «الأوركسترا الملكية البريطانية الفلهارمونية» التي تعدّ من الأبرز في فئتها عالمياً. قبل الكلام عن المغامرة التي بدأها أو قد يبدأها خلال ما تبقى من هذا الشهر، تستأهل حياته الصاخبة وقفة مختصرة. جدّاه قتلا على أيدي الجيش العثماني خلال المجازر الأرمنية. والده كان في السادسة في ذلك الحين، لذا لم يستطع إخباره الكثير عن أسلافه. لم يبقَ في ذاكرته سوى صورة واحدة: أبوه وأمه مطوّقان من الجنود العثمانيين. إذاً، نجا والداه من المجازر، وأتيا سيراً على الأقدام مع الآلاف إلى أحد مخيمات الأرمن في بيروت حيث تعرّفا إلى بعضهما وتزوجا. لكن والدته ماتت عندما كان في الرابعة، فأرسل إلى دار الأيتام الذي أسسته في جبيل ماريا جاكوبسن (1882 - 1960) السيدة الدنماركية التي شهدت على مجازر الأرمن، وأنقذت كثيرين ووثقت هذه الأحداث في كتاب يعتبره أرمن العالم مرجعاً لهذه الفترة السوداء من تاريخهم. لا يعرف فارتان، الستيني اليوم، في أي سنة ولِد تحديداً. هو لا يملك وثيقة ولادة، لكنه يتذكّر أنه كان تقريباً في الثامنة عندما ترك دار الأيتام وراح يتسكع في الشوارع. باع العلكة ومسح الأحذية. وعند المساء، كان يبحث عن مكان يبيت فيه. تعرّف، بطبيعة الحال، إلى فتية من «طبقته» الاجتماعية، فتعلّم من أحدهم بعض النظريات الموسيقية. هكذا تعلّم كتابة الموسيقى قبل الأبجدية. ثم بات عضواً في فرقة موسيقى، مؤلفة بالكامل من أولاد يعيشون في الشارع. مع بداية الحرب الأهلية في لبنان، هاجر إلى بريطانيا، حيث أكمل دراسته الموسيقية وأصبح مؤلفاً وقائد أوركسترا. إن كان هو لا يعرف سوى القليل القليل عن أجداده، فابنته فيرونيكا لا تعرف شيئاً إطلاقاً. لذا، اقترحت على والدها، إحياءً لذكرى أسلافها ومئات الآلاف من مواطنيها الذين قتلهم الأتراك، السير على الدرب التي مشاها من نجا منهم قبل قرن تماماً.
يبلغ طول المسار الذي سيسلكه فارتان وابنته، تحت عنوان «سيراً على الأقدام من أرمينيا» 1000 كيلومتر. أما خريطة الطريق فهي على الشكل التالي: الانطلاق من مدينة «فان» التاريخية (أقصى شرق تركيا لناحية الجنوب) ذات الغالبية السكانية الكردية اليوم (كان سكانها من الأرمن قبل المجازر). من هناك، يتجه ملكونيان وابنته غرباً ثم يأخذان مساراً بالاتجاه الشمالي الغربي، فيمرّان بديار بكر، ثم يصلان إلى الحدود مع سوريا التي سيدخلانها من «عين العرب». هنا سئل القائد عن خطر «داعش» على حياته وحياة ابنته إن مرّا في هذه البقعة الحساسة، فرَدّ أنه عندما حدّدا مسار الرحلة، لم تكن كوباني قد وقعت بيد «داعش». لكن رغم الظروف المستجدّة، لا شيء سيثنيهما عن تغيير مسارهما. كان ذلك قبل تحرير هذه المنطقة وعودة سيطرة الأكراد عليها الشهر الماضي، ما يخفف من الخطر الذي كانا سيتعرّضان له. من «عين العرب»، يأخذ الثنائي مساراً باتجاه حلب، ومنها إلى حماة فحمص فالحدود اللبنانية الشمالية، ومنها إلى الساحل الشمالي، مروراً بطرابلس، وصولاً، أخيراً، إلى دار الأيتام في جبيل… أي إلى المنزل الوحيد الذي يذكره ملكونيان في لبنان في يوم من أيام نيسان (أبريل) المقبل كما هو متوقّع.
في الفيديو الخاص بالمغامرة، يقول ملكونيان: «هذه ليست رسالة فلسفية أو دينية أو سياسية. كل ما أقوم به هو لطرح سؤال واقعي ومحدّد: لماذا نجد العديد من دور الأيتام الأرمنية في بلدان الشرق الأوسط العربية في حين لا دار أيتام تركياً واحداً في المنطقة؟ سؤال أرى أنه من شأنه إيقاذ الضمائر في العالم. هذا يعني أن ثمة حدثاً شديد البشاعة وقع قبل 100 عام. حدثٌ لا يجب أن يتكرر إطلاقاً في تاريخ الإنسانية. سأمشي من مدينة «فان» إلى لبنان وتحديداً إلى دار الأيتام في مدينة جبيل، حيث نشأت، لأذكّر العالم بآلاف البشر الذي تم محو أثرهم عن وجه الأرض… من بينهم أجدادي أنا». أما للأتراك فيقول: «كما أن أموراً جيدة قام بها أسلافكم لا تجعل منكم بالضرورة أناساً جيدين، كذلك الأمور السيئة التي قام بها أجدادكم لا تجعل منكم بالضرورة أناساً سيّئين. أنا لا أطلب منكم سوى الاعتراف، فالنكران سيُبقي نفوسكم مضطربة».