شائكة جداً مسألة الكتابة عن رفيق الحريري. فأي انتقاد يعدّ من قبل أنصاره تجنياً وتطاولاً وتهشيماً لشخص صار في موقع الأسطرة والتقديس. وأي إعطاء حق يعتبر من الجانب الآخر ممالأة وتزلفاً وتموضعاً ظرفياً غرضياً لا غير. دوامة متضادّة، لا توحد ولا تجمع إلا خطابين متقابلين من الشتائم على دهاليز «التفاصل اللااجتماعي»، كما اشتقها رفيق علي أحمد... غير أن مرور عقد كامل على غياب الرجل، فضلاً عن الظرف الراهن، والمرتبط بعوامل عدة، منها غيابه بالذات، يقتضي الكتابة، رغم كل المحاذير، عن رفيق الحريري.
لم يدخل الحريري لبنان بطلاً سيادياً أو انتحاري استقلال. ولا ذنب له في ذلك ولا عيب. فهو ظل حتى العام 1990، يوصف في وسائل الإعلام التي تحبه ويحبها، على أنه «الوسيط السعودي». جاء الرجل من زوايا متعددة. منها التزامه بالشأن العام، منذ كان شاباً. ومنها نهمه إلى ممارسة السلطة، كما خبرها وعشقها في بلاطات السعودية. ومنها طبعاً حاجة إحشائية إلى تشريع ثروته. لا بالمعنى القانوني. بل بمعنى الشرعية الذاتية والشعبية والاعتراف المحلي والدولي.
المهم أن الرجل جاء إلى لبنان من باب الوصاية. ولا لزوم لشرح المزيد. لا بل جاء حصاناً رابحاً لتركيبة الكونسورسيوم الأميركي ــــ السعودي ــــ السوري، بعد كبوته في انتخابات 1992. وأيضاً لا ضرورة لكثير من التفاصيل ههنا. يكفي العنوان. ولا تجريح في الواقع ولا في الوقائع.
بعدها كبر رفيق الحريري في لبنان، ومن ثم خارجه. وكبر بسبب لبنان، وإن في سياقات الخارج. صحيح أنه كان يعرف جاك شيراك منذ كان الأخير عمدة باريس، وكان هو دبلوماسياً في سفارة الرياض فيها. لكنه، بعد لبنان، صار يعرف شيراك، حتى يومئ له بإصبعه في قلب قصر إليزيه، وخاتمه يتوهج تحت أنوار صالات الملوك، فيهرول خليفة نابوليون إليه. صحيح أنه كان يعرف موسكو. لكنها بعد عودته إلى بيروت، صارت تحتفل بعيد ميلاده في قلب الكرملين. صحيح أنه كان صاحب أغنى دفتر أرقام هواتف في العالم، لكنه بعد السرايا، صار رقمه هو الأغلى والأصعب لدى كثيرين من حكام العالم. كبر رفيق الحريري في لبنان. فغيّره هذا البلد الصغير. صار هنا أكثر سيادية. تحول هنا استقلالياً. أحس بعد حجمه اللبناني، أنه بات أكبر من وزير خارجية «أبو يعرب» أو «أبو عبدو». وأنه أضحى ينتمي إلى مكان يستحق أن يكون وطناً...
خلال هذا المسار، كان الحريري يأخذ من لبنان حجمه، لكنه كان يعطيه في المقابل استعادة موقع، وإعادة دور. خارجياً، أعاد لبنان إلى قواعد دبلوماسيته التاريخية الأربع: واشنطن، باريس، روما والقاهرة. فيما الرياض مربط خيله. فعاد لبنان اسماً على الخارطة الدبلوماسية الأممية. داخلياً، نقل الوجدان السني اللبناني من مرجعيات ما بعد الحدود، من الكتلة الوطنية السورية في الثلاثينات، وعبد الناصر في الخمسينات والستينات، وأبو عمار في السبعينات، إلى مرجعية لبنانية للمرة الأولى في تاريخ هذا الوجدان.
هكذا بين تعاظم كتلة الحريري الشخص، واكتشافه موقع لبنان الوطن، صار الرجل هدفاً. لا بل صار مستهدفاً. نظرياً أكثر من جهة كانت لديها المصلحة في إزاحته: سوريا؟ ممكن، خصوصاً بعد ذلك التباين في ما كانه الرجل وما صاره. إيران؟ ممكن أيضاً، في ظل الصراع المذهبي المصلحي والجيو استراتيجي بين طهران وأميركا وعربها. الإسلاميون؟ ممكن أكيد. وتحديداً بعد اكشاف دوره في محاصرتهم عراقياً لصالح سنة الرياض هناك. اسرائيل وعرابوها؟ أكثر من أكيد. ذلك أن حجر الدومينو الذي أريد لبغداد أن تطلقه زلزالاً للفتن المذهبية في المنطقة، بعد نيسان 2003، لم يكف لذلك. فكان من الضروري إيجاد شعلة أخرى، يسهل نقل عدواها، من لبنان إلى سوريا فالعراق فكل مشرق النار والحديد الذي صاره بعد الحريري وحتى اليوم.
لكن، بعد عشرة أعوام على رحيله وتأليهه، هل أخطأ الرجل؟ وأين؟ طبعاً أخطأ حينما اعتقد أنه قادر على أن يتخطى لبنان. بعد 22 تشرين الثاني 2004، يوم أعلن ميشال عون من باريس أن الجيش السوري إلى جلاء حتمي، وأطلق دعوته الشهيرة إلى حوار لبناني ـــ لبناني ولبناني ــــ سوري، لتفاهم من أجل البلدين، كان الجميع في بيروت يضحكون على ذلك المنفي الباريسي. لكنه أصر، كما دوماً. فأرسل وفوداً إلى كل القيادات في بيروت، وحتى رسالة إلى دمشق، لاستدراك الكارثة المقبلة. يومها ذهب موفدا عون ليسلما رسالته إلى الحريري في قريطم. قرأها بسرعة. ابتسم مستسهلاً. قبل أن يقول لزائريه: «سلمولي على الجنرال. وقولولو إنو هوي همه لبنان. بس أنا همي لبنان وسوريا»!
ثم أخطأ الرجل في الداخل اللبناني نفسه، حين اعتقد أن بناء الدولة مستحيل. فاستعاض عنها ببناء دولة رديفة. مسخ سرطاني من الأموال والمصالح والتنفيعات، صارت أكبر من الدولة الأصلية. حتى أصابته في أكثر من مكان، في كل «بنك» وفي كل «مدينة». وأخيراً في داخل الداخل، أخطأ الرجل أيضاً، حينما لم يتعلم من كارثة المارونية السياسية. فتوهم أن من الممكن استنساخها، من موقع آخر.
يقول أحد أركان 14 آذار: «لقد تصالحنا مع رفيق الحريري على ضريحه». بعد عشرة أعوام تبدو الفرصة ذهبية للحريري الابن، لكي يرسخ إنجازات والده، ويتجنب ما فرض عليه من سلبيات، وليتصالح مع جميع اللبنانيين، ومع مفهوم الدولة، ومع لبنان أولاً فعلاً، ومع الحياة.