يقف عبدالله ابن الـ 10 سنوات في شارع الحمرا يومياً من الساعة الثالثة حتى العاشرة مساءً. يحمل علبة العلكة ويجول بها بين السيارات والمارة، بالرغم من أنه يحلم بأن يصبح مهندساً. منذ سنتين هرب الولد من معضمية الشام، ليستقر وأمّه وأخوته الأربعة في ضاحية بيروت، وتحديداّ في حي السلم. في الواقع، غالبية الأولاد المنتشرين في الحمرا يقولون إنهم يأتون بالفان الرقم 4 من حي السلم. يتوزعون على طول الشارع على مهن مختلفة: ماسحو الأحذية، باعة العلكة، باعة الورود والمتسولون. قد يكون شارع الحمرا النموذج الأبرز للقاء أطفال الشوارع نظراً لاحتوائه على أكبر عدد منهم: 338 طفلاً.
أسئلة عديدة يطرحها المارة على هؤلاء: من أين يأتون؟ كم يساوي دخلهم اليومي؟ من يأخذ منهم الأموال؟ غالباً ما تأتي أجوبة الأطفال متشابهة.
تُجيب الدراسة التي أطلقتها أمس وزارة العمل، منظمة العمل الدولية، اليونيسف ومنظمة إنقاذ الطفل الدولية بعنوان «الأطفال المنتشردون والعاملون في الشوارع في لبنان: خصائص وحجم»، على هذه الأسئلة والكثير غيرها، وتضع هذه الظاهرة في إطارها الموضوعي، موضحةً حجمها وأبرز أسبابها. فقد ازداد الحديث في السنوات الأخيرة عن ظاهرة أطفال الشوارع بسبب ارتفاع أعداد الأطفال نتيجة التدفق السوري إلى لبنان. شاع الكثير من الكلام عن ازدياد التسول، الدعارة والسرقة وحُمّل اللاجئون أسباب هذا الفلتان، إلا أن هذه الظاهرة تحتاج إلى تعمّق ودراسة، وبالتالي لا يمكن إسقاط استنتاجات سطحية عليها مثلما يفعل الكثيرون.

نشاط الأطفال ومداخيلهم

قدّرت الدراسة العدد الإجمالي للأطفال الذين يعيشون ويعملون في الشوارع بنحو 1510 طفلاً في 18 منطقة، يتركز 79% منهم في بيروت وطرابلس. أعلى النسب في بيروت تتوزع على 3 مناطق هي الحمرا (338 طفلا)، كولا- طريق الجديدة (290 طفلا) وعين المريسة (201 طفل). يُستنتج من توزّع الأطفال على هذه المحاور النشطة تجارياً أنّ «الأطفال في الشوارع يتركّزون في بعض الأجزاء المحدّدة من المدينة، ويجولون على نحو عشوائي في أجزائها الأخرى، اذ يفضلون مناطق معينة لممارسة عملهم، حتى وإن كان ذلك يعرّضهم لمنافسة أكبر. وهذا ما يؤشّر على حقيقة أنّ النسيج الاجتماعي هو معيار آخر يؤخذ بالاعتبار من قبل الأطفال في الشوارع عند تحديد المناطق التي ينبغي استهدافها». تعلن الدراسة ان هذا الأمر «يؤكّد أن الأطفال في الشوارع منظمون تنظيماً جيّداً ويجري التخطيط مسبقاً لنشاطاتهم».
تختلف نوعية «المهن» التي يمارسها هؤلاء، إذ إن 43% من الأطفال منخرطون في أعمال التسوّل، و37% يبيعون في الشارع، أماّ الباقون، فيتوزعون على 7 أنشطة مثل تلميع الأحذية، العتالة، التنظيف، قراءة الطالع… وتدخل الدعارة ضمن هذه الأنشطة إنما بنسبة 0.2% فقط، لكنّ 17% من الأطفال الإناث تعرضن لاعتداء جنسي أو اغتصاب، و46% من الأطفال تعرضوا لاعتداء جسدي من قبل المارة.
يتساءل الكثيرون عن متوسط الدخل اليومي لهؤلاء، وهو يختلف باختلاف «المهن»، إذ يعد التسول أقل موارد الدخل بمعدل 13700 ليرة يوميا، وإذا عمل الطفل طوال أيام الأسبوع، من دون تعطيل مهما كان نوعه، فإنّه يؤمّن دخلاً شهرياً يصل إلى نحو 500 الف ليرة شهريا، بينما يقدر الدخل اليومي لفئة تنظيف زجاج السيارات بـ14100 ليرة/ يوم، وفئة قراءة الطالع بـ 18100 ليرة/ يوم، ليصل الدخل الأعلى الى 55000 ليرة/ يوم في فئة الدعارة. يُعطي 56% من الأطفال كل ما يجنون من عملهم للآخرين الذين غالبا ما يكونون أفراد أسرتهم.

التهميش الاجتماعي: أبرز أسباب التسول

تشير المعطيات الديموغرافية الى ان 73% من الأطفال هم سوريون، أتى 61% منهم الى لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية. أما نسبة اللبنانيين، فهي 10%، مقابل 8% فلسطينيين، والجزء الباقي هم من عديمي الجنسية أو الأقليات الإثنية.
إحدى الأفكار الشائعة والخاطئة التي تدحضها الدراسة هي أن «السوريين هم سبب ظهور التسوّل». تؤكد الدراسة أن هذه الظاهرة مثّلت منذ فترة طويلة مشكلة يتفاعل فيها العديد من المسائل السياسية والاقتصادية- الاجتماعية المزمنة. وقد ساهم تدفّق اللاجئين أخيراً، الذين يمثّل الأطفال جزءاً مهماً وكبيراً منهم، في تفاقم هذه المشكلة؛ إلا أن هذا التدفق لم يكن بأيّ شكلٍ من الأشكال، المسبب الرئيسي لظاهرة الأطفال الذين يعيشون أو يعملون في الشوارع. فالأسباب الجوهرية التي تدفع بالأطفال الى الشوارع «تنطوي على مجموعة معقّدة من العوامل الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، النفسية والمؤسسية الراهنة والمزمنة في آن معاً».
46% من الأطفال
تعرضوا لاعتداء جسدي على يد المارة


حددت الدراسة 4 عوامل أساسية تدفع الاطفال الى الشوارع هي التهميش أو الإقصاء المجتمعي، هشاشة الأوضاع الأسرية، تدفق اللاجئين السوريين، والجريمة المنظمة واستغلال الأطفال. في ما يتعلق بالعامل الخارجي (اللاجئين)، تجذرت هذه الظاهرة على نحو أعمق نتيجة عوامل أخرى ذات صلة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت قائمة قبل الأزمة في سوريا، كالتحوّلات البنيوية في الاقتصاد، السياسات النيوليبرالية، وعدم التوازن في النمّو الاقتصادي بين المناطق والقطاعات الاقتصادية المختلفة. ما ادى إلى انحسار النمو، وتراجع المؤشرات الاقتصادية- الاجتماعية، والتفاوت في التنمية الاقتصادية، وبخاصة في المناطق الريفية والضواحي المدينية. أما العوامل الداخلية المتعلقة بالإقصاء المجتمعي والأنماط الثقافية، فتلفت الدراسة الى انه على هامش المجتمع اللبناني بعض الجماعات التي جرى إقصاؤها اجتماعياً (مثل النّوَر،عشائر البدو، العرب، والتركمان)، وهي تتميّز ببعض الخصوصية. حرم معظم أفراد هذه الجماعات الجنسية اللبنانية، وحتى عندما تخلوا عن نمط الحياة البدوية، ولكن من دون أن ينتموا تماماً إلى النمط الحضري، استمرّ المجتمع في استبعادهم وإقصائهم، فكان لا مفرّ من الانخراط في سوق العمل غير النظامي، أو في العمل في الشوارع. تظهر أيضاً بقوة عوامل اجتماعية مثل التفكك الأسري والتخلّي عن الأطفال، إذ إن الأسباب الكامنة وراء بروز ظاهرة الأطفال في الشوارع في لبنان، ناجمة إلى حدّ كبير عن التفكّك الأسري والتخلّي عن الأطفال وانفصالهم عن الأهل. وقد تبيّن أنّ هناك ترابطا بين هذه الحالات وقسوة أحد الأبوين، أو العنف المنزلي، أو التحرّش الجنسي، أوإدمان الكحول، أو حتى تعاطي المخدرات. أما العامل الأخير، فهو الجريمة المنظمة واستغلال الأطفال، حيث كشفت المقابلات المعمّقة، أن العديد من الأطفال الذين يعملون في الشارع تسيطر عليهم وتديرهم شبكات الأعمال الجرمية المنظّمة التي اعتادت، حتى قبل الأزمة السورية، ممارسة الاتجار بالبشر من خلال نقل الأطفال في الشوارع إلى لبنان، وفي أكثر الحالات، برفقة أسرهم. وتشير نتائج البحث الكمي أيضاً إلى وجود هذه الشبكات، على مستوى العمل في الشارع، حيث أفاد نحو ٪ 5 من إجمالي عيّنة الأطفال في الشوارع أنهم يعطون كلّ إيراداتهم اليومية «للريس» أو يتقاسمونها معه. كما تشير النتائج إلى أنّ نحو % 2 من الأطفال يعيشون مع»الريس» أو صاحب العمل الغريب عنهم.

■ للاطلاع على الدراسة كاملة أنقر هنا