بغداد | لا أعلم لِمَ فكّرت بافتراض أنّ أنسي الحاج اليوم حيّ؟ يراقب ويتابع ويتلوّع مثل أي إنسان عربيّ تحيطه اليوم أشواك الموت في صحراء العقول التي تبتلع الأمل والمستقبل، سواء بالذبح أم بالحرق أم بالتقتيل الـ HD.ثمّة اقتراح يهمس في أذني هذه اللحظة، أن أتقمّص دور من يكتب ردوده بحقّ الذي يجري لعالم العرب ومصائرهم فيه، أن أتهجّى ملامح رسالته الأخيرة بأنفاس متقطعة، وإن كانت روحه قد اختارت الصمت. ينظر أنسي إلى جمع من العراقيّين يساقون إلى الموت - بأشكال شتّى- في تكريت والأنبار وبغداد والموصل، فيلتفت إلى صورة للمسيح يستعيدها من حائط طفولته، فيعلّق: "إذا لم تجئ الآن فلا تجئ بعد ذلك. الحاجة إليك الآن.

نريد أن نعرف. نريد أن يقول لنا أحد ماذا نفعل، أين الحقّ، لماذا نعيش، من هم هؤلاء ومن هم أولئك. نريد أن يقول لنا أحد من نحن، ولماذا يضربوننا، ويكذبون علينا، ويجوّعوننا، ويبّشعون حياتنا، ويهدرون مستقبل أولادنا، ويعهّرون الحياة من بابها إلى محرابها..."(1).
وفي ساعة من الضجر يفتح حاسوبه، فتمسك النقرة الالكترونيّة بيده، وتوجّهه إلى فجيعة جديدة على صفحة الياهو الرئيسة، "أنّ طفلاً سوريّاً مات من شدّة البرد في مخيّمه بشبعا"، فتذهب مخيّلته لتوثيق صرخة هذا الفقيد بوجه النسيان؛ (لأنّنا سننسى هذا السوري، مثلما سينسانا غيرنا عندما نموت): "بعدما صعدتُ العرش والشجر الخالية منه الدنيا/ حواني شجرُ البَرْد/ ولم أتحطّم لكنّي تعبت./ ولن يبكيني أحد/ حقّاً/ ولن يرتعشوا لغيابي/ حقّاً كما كُنت حاضراً/ ولن يستوحشوا مثل بُرج/ ولن يموتوا عليَّ موتاً يُضاهي حياتي.."(2).
وقبل أن تحلّ كآبة المساءات الرتيبة، يذهب في يوم لاحق إلى مكتبه في الجريدة، لكن لا ليكتب خواتمه، وإنّما رغبة منه في مجابهة المزاج العكر، يصل إلى منضدته وأشياؤه على حالها، تبادره زميلة من هناك بالسؤال إن كان قد سمع بخبر ذلك الصحافي التونسيّ الذي قدّمته إليه عام 2010، "سفيان شورابي ألا تذكره سلّم عليك وزارك هنا قبل سنوات، يقال إن "داعش" أعدمه ومصيره مجهول حتّى الآن". بنبرة خافتة، كمن يحارب سيلاً من نار يلفح وجهه: "هل سفيان وحده الضائع مجهول المصير؟ العرب كلّهم ضائعون اليوم، "الروافض" و"النواصب" ضائعون، المعتدلون والمتطرّفون، القتلة والمسالمون، المؤمنون واللادينيون، المسلمون والمسيحيّون، النساء الأرستقراطيات الآمنات والمسبيات من أزيديات الجبل العراقيّ، كلّنا في ضياع معولم هذه المرّة".
ومع سائق تكسي يحبّ الثرثرة كثيراً، يعود أدراجه إلى مسكنه، بعد جلسة له مع أصدقاء قدامى وجدد، وفي الطريق يطلب رفع صوت المذياع، لا ليوقف تذمّر السائق من الوضع المعاشي ورغبة الناس في الهجرة وزحمة السير، فكّر عسى أن يكون هناك جديد يستحق الانتباه، صوت محلل سياسيّ يقرأ أبعاد حرق الطيار الأردنيّ بهذه البشاعة المتقنة، لحظة من فظاعة تلدغه بمقطع نثريّ كان قد كتبه :"لقد تغيّرت مقاييس التراجيديا، صار الموت أصغر... أكبر الظنّ أنّ البشريّة ستطالب بعد حين بإعادة اختراع الموت"(3).
يقف كثيراً أمام ضحايا عام 2015، كلّهم بلباس برتقالي وفي طابور منتظم، فيركّز صاحب "لن" و"الرأس المقطوع" في هذا المشهد: مصريّون أقباط على البحر الأبيض المتوسط أعدوا للذبح. دمهم ومن سبقهم فضح جرح العرب بأصولياتهم ونخبهم وساستهم، وحتّى طوائفهم جميعها يوم تركت رفقة التعايش.
إن عادت ظلال أنسي وبقيت ذكراه حيّة، لكنّه لن يعود، إنّما يبقى يسأل من بعيد: "المَيتُ، بعد قليل، أيرجع؟/ أليس كلّ ما على الأرض يتغيّر؟/ الميت، بعد قليل، أيرجع؟/ لعلّه انتهى سبب الضحك وما زلنا نضحك./لعلّه انتهى سبب البكاء ولا نزال نبكي./ هل يرجع الذاهب؟.."(4).

(1): من مقال "يسوع المسيح احضر حالاً" النهار 24 كانون الأوّل 1967.
(2): من قصيدة "تحت حطب الغضب".
(3): من مقال "الأرض السائبة" الأخبار 20 تشرين الثاني 2013.
(4): من قصيدة "عودوا أيُّها الأعزّاء".