«رحل أو رحلَت بصمت». إنها العبارة الجاهزة التي تُستَهَل بها معظم التقارير والمقالات إثر وفاة شخصية عامة. لكن هذا الهدوء في الغياب، ينطبق عن حقّ على المعلّمة زفارت سركيسيان (1924 ــ 2015). نعم، بصمت حقيقي، لا يبرّره سوى الانحطاط الثقافي والأخلاقي، رحلت السيدة الجليلة التي تتلمَذَت على يديها أجيالٌ من عازفي البيانو الكلاسيكي في لبنان، منذ الرعيل الأول ولغاية الجيل الجديد.
وإذا بات «رفْع اسم لبنان عالياً» رسالة راقصة رديئة أو مغنّية فيها كل المواصفات ما عدا الصوت، أو متسلّق جبال بلَغَ القِمَم العالية (بفضل ثروة مالية أمّنَت له الوسائل والمعدّات التي توصِل أيّ كان إلى هذه القمَم) أو تاجر ناجح، فحرامٌ وضْعُ الراحلة سركيسيان في نفس الخانة مع تلك الشلّة بالقول إنها ساهمَت بشموخ هذا الوطن. لنقل إنها أفنَت حياتها ـــ بعيداً أن أي رغبة في الشهرة ـــ لهدفٍ نبيل، إنسانيّ، أمَميّ، لا علاقة للوطنية المزيَّفة به. وإن لم نُصِرّ كثيراً على عدم شمْلها مع رافعي اسم لبنان، علينا أن نكون دقيقين في التعبير.

أيّ، نعم، رفعت سركيسيان، فقط اسم هذا البلد عالياً. بمعنى أنها، بخلاف الباقيين، محَت اسمها كلياً لتحقيق السمعة (الطيّبة والمقبولة جداً نسبياً) التي يتمتّع بها لبنان في مجال العزف الكلاسيكي على البيانو. من جهة ثانية، وبفعل علاقاتها في هذا المجال وعضويّتها في لجنة «بعلبك»، كانت سركيسيان من الذين ساهموا في دعوة أساطير البيانو إلى المهرجان، أمثال سفياتوسلاف ريختر وكلاوديو آراو وغيرهما.
إذاً، قبل ثلاثة أيام، رحلت مدرِّسة البيانو اللبنانية من أصلٍ أرمني/فلسطيني، زفارت سركيسيان. مدام سركيسيان، كما كان يناديها تلامذتها وعارفوها، مولودة في مصر عام 1924. عاشت في القدس العتيقة قبل الاحتلال وتتلمذت لاحقاً على يدَي اثنين من أهم رموز البيانو الكلاسيكي في فرنسا، الراحلَين مرغريت لون (Marguerite Long) وجاك فيفرييه (Jacques Février).
درّست عازفين لبنانيين
وصلوا إلى العالمية مثل عبد الرحمن الباشا ووليد حوراني
ولكي يكتمل الغوص في أسرار البيانو، علينا أن نضيف، في المدرسة الفرنسية للبيانو، شخصية ثالثة هي كبير المعلّمين ألفريد كورتو، الذي حظيَت سركسيان بحضور بعض الدروس المتقدِّمة التي كان يعطيها للمحترفين.
بعد عودتها من فرنسا واستقرارها في لبنان، كان البيانو الكلاسيكي في بلدنا شبه غائب، لناحية احتراف مهنة العزف. اتجهت صوب التعليم وبدأت تعطي الدروس لطلابٍ شكّلوا لاحقاً الجيل اللبناني الأول من العازفين العالميين، على رأسهم عبد الرحمن الباشا ووليد حوراني وغيرهما. غادر تلامذتها المتفوّقون لبنان، واستقرّوا في بلدان تقدِّر هذه المهنة، لكنهم لم ينسوا أستاذتهم الأولى، فكانوا يزورنها كلّما مرّوا ببيروت لإحياء أمسياتهم. أمّا سركيسيان فبقيت هنا تعلّم جيلاً بعد آخر حتى بات من النادر أن نسمع بعازف لبناني (أو من أصل لبناني) مرموق لم يأخذ دروساً معها أو لم يزُرها لتهمس في أذنه أسراراً اكتسبتها من الخبرة الطويلة في دهاليز المفاتيح البيضاء والسوداء. ومن تلامذة سركيسيان الذين بلغوا الاحتراف نذكر العازفة الأرمنية هازميك سورمليان ومن الجيل الجديد محمد سبلبل وأندرو حدّاد وأليانور خليفة. كما يضاف إليهم باسل البابا الذي، بعد إكمال دراسته في ألمانيا، عاد إلى معلمته ولازمها مع آخرين في ساعاتها الأخيرة، ليشهد على وصيّتها الموسيقية، إذ حدَّدَت خمس مقطوعات لـ «تسمعها» في مراسم دفنها: باخ وموزار (مؤلفَاها المفضَّلَان)، بيتهوفن، شوبان وبرامز.



توارى في الثرى عند الثانية عشرة من ظهر اليوم في «كنيسة سيدة النياح للروم الأورثوذكس» (شارع المكحول ــ راس بيروت). وتقبل التعازي في صالونات الكنيسة بعد الدفن ولغاية الخامسة عصراً.