مثّلت التحوّلات التي بدأت تفاعلاتها الآلية والمباشرة أواخر عام 2010 بيئة خصبة لسلسلة من الاشتباكات السياسية بين حزب الله وحركة حماس. تباين الإدراكات والمقاربات حول طبيعة الأحداث والأزمات، لا سيما منها الأزمة السورية، أتاح الفرصة لكل الغلاة وأعداء الطرفين والمحرّضين لتوسيع رقعة الخلاف مستندين إلى وقائع بعضها صحيح والآخر انبنى على تسويلات ومزاعم لاقت صداها لدى الجماهير التي انفعلت بطبيعة الخطابات والمواقف التي هيمن عليها البعد المذهبي وانحدّ بحدودها الصارمة.
ومع تبدّل المشهد العام في المنطقة لصالح محور المقاومة بعدما انصبغ لعامين تقريباً بصبغة الإخوان المسلمين وسطوتهم، وهم الذين وجدوا أنفسهم ملاّكين لممتلكات واسعة كان معظمها على نحو «الهبة المعوّضة)» التي يجوز فيها للواهب (الأميركي) أن يرجع عنها حال تخلّف الموهوب له الوفاء بالعوض، لم يكن من مفرٍ أمام حماس إلا تجاوز إشكاليات الماضي والعودة بخطى متدحرجة إلى «الحزب»، والذي بصرف النظر عما ستكشفه حركة التاريخ من حقائق في ما خص أداء حركة حماس تجاهه، يتمتع بـ «طاقة استيعابية» جيدة، وحصافة أخلاقية تمكنّه من «العفو عند المقدرة»، والإشاحة عما سمعه من بعض قيادييها الذين لا تنقصهم مهارات لغوية بقدر ما ينقصهم الفهم العميق للسياق الذي جرت وتجري في أتونه كل هذه الأحداث الجسام.
لم يذهب حزب الله مع حركة حماس إلى محاججة علمية وأخلاقية للوقوف على «أسباب الطعن وقلة الوفاء» في الموضوع السوري. التطورات الميدانية كانت لوحدها كفيلة بكشف الخلل البنيوي في واقع وعي الحركة الإخوانية. هذا النوع من النقاش لم يُرده الحزب لإعادة التواصل، كان كافياً أن يرى حماس تخرج من عثراتها إلى وظيفتها الأساسية كحركة مقاومة فلسطينية قادرة على مواجهة المرحلة التاريخية انطلاقاً من الأخطار التي تهدّد الفلسطينيين في أرضهم ووجودهم وقضيتهم لا بالقياس إلى ما أُطلق عليه زوراً الربيع العربي حين اتخذت الحركة على أساسه وُجهة موازية للوجهة التي أنجز في عباءتها «الناتو» العربي والغربي كل هذه الفوضى والحرائق الواسعة في المنطقة. وفي معرض الانقسام الحاد بين القوتين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية ألقت الأحزاب اليسارية والقومية الحليفة لحزب الله باللائمة عليه بسبب الموقف الضعيف والرخو تجاه «قبيلة تتقدم عندها الروابط العصبية على الروابط الوطنية والقومية والإنسانية». وذهبت لتقول له: «هناك فرق بين التعامل مع حركة همّها الأساس الوصول الى السلطة وبين حركة تريد تحرير فلسطين؟ بين حركة متذبذبة متأرجحة انتهازية وأخرى تطرح رؤية تاريخية مستقبلية حضارية، تنتمي إلى ثقافة واضحة المعالم». وطرحت هذ القوى نفسها بديلاً ثورياً جديداً يمتاز بالوفاء والجدّية والعلاقات الثابتة، وطلبت من قيادة حزب الله أن يتفهّم هذه الرغبة ويتأهب لملاقاة نزعة التحوّل هذه بعد أن كشف وجودها في الميدان السوري أنها أكثر جذرية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وأصدق تعاملاً من بين حلفاء الحزب، لأنها لا تنطلق من حسابات طائفية ومذهبية وعرقية في مواجهة العدوان على المنطقة بفروعه الأميركية والإسرائيلية والتكفيرية، ولا تتوسل السلطة عبر الفوضى والمهادنة مع التكفييريين وتبريد الصراع مع الصهاينة!
وفي السياق الذي تعرّض فيه حزب الله لنقد جذري قاسٍ من القوى القومية حول طبيعة تحالفاته ذات البعد الديني التي ترى أنها تفسخت عند أول مأزق سياسي وأمني، واجه في الآن نفسه نقداً من الإخوانيين والحمساويين ومن يدور في فلكهم حول أهدافه وتطلعاته المذهبية. وجد القوميون أنّ الحزب ربط نفسه بتحالف هجين مع حماس يعكس الهواجس والمخاوف المذهبية، بينما المطلوب تحالف يستمد زخمه من جوهر وطبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي بعيداً من النزعات الهوياتية والجهوية والقطرية، أما التمسك بأولويات مذهبية ضيّقة فإنّه سوف يستثني شرائح عربية واسعة لا ترى أنّ تحرير فلسطين يمكن أن يكون خارج مجرى التيار العروبي بكل امتداداته النضالية والثورية، وأهمية اللحظة الراهنة أنها تصلح بشكل عملي لتشبيك العروبي بالإسلامي خصوصاً أنّ بالإمكان نفي مقولة أنّ الصراع الدائر في المنطقة هو صراع سني ــ شيعي والتي يدأب الحزب على تأكيد أنها سياسية بامتياز. إذاً، لتدعيم هذه الفكرة وتجسيدها ميدانياً فإنّ المطلوب من حزب الله أن يدعم التيارات العروبية كما دعم حماس فوصلت إلى ما وصلت إليه، أما الحكم بالنتائج قبل تجريب فروضها فإن العروبيين يربأون بالحزب أن يستمر بالتمسك بها!
في ما خص حزب الله، هناك فكرة حاكمة لدى قيادته مضمونها أننا لن نستطيع أن نحظى بالمقبولية في «العالم السني» وأن ننال المشروعية كحركة مقاومة جدّية على مسرح الصراع مع العدو الإسرائيلي ما لم نتوافق مع حركة الإخوان المسلمين بفرعها الفلسطيني. ثم إنّ التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية والانقسامات السنية الشيعية التي تفاقمت مع احتلال القوات الأميركية للعراق فرضت رداً إسلامياً وحدوياً، فقد اتسعت دائرة الاستهداف الأميركي الإسرائيلي من إسقاط فلسطين كقضية وأرض محتلة لتشمل استهداف الإسلام نفسه، وهذا ما يستدعي التفاف القوى الإسلامية المقاوِمة لتكثيف التنسيق وتشبيك الجبهات لإفشال الهجمة الإستعمارية الجديدة. نعم حزب الله عاش عقدة تكدّر العلاقات بينه وبين الإخوانيين والحمساويين، وحاول أن لا يؤدي الاختلاف في وجهات النظر من الأزمة السورية لتوليد ظروف نزاع مذهبية، وكان على الدوام يستعجل عقلنة الوضع السائد وتخفيف حدّة السخط الشعبي، والتصدي لأي تغيير بنيوي في التحالف الذي هدفه الأساس مواجهة العدو الإسرائيلي. عقل الحزب كان يرسم مواقفه وفق أولويات صارمة. صحيح أنّه يريد حلفاء جدداً ولكنه لا يريد أن يخسر من عمل معهم لسنوات طويلة ولو أخطأوا أو انحرفوا ولم يعوا تماماً طبيعة متطلبات المرحلة وتحدياتها. ما حصل يستوجب، بحسب قيادات الحزب، اقترابات توافقية لا إقصائية وإعادة تصويب القراءات والمسارات لتصب في مصلحة الشعوب العربية والقضية الفلسطينية. ثم هل القوميون والعروبيون حاضرون للعمل على مستوى الأمة كلها. فهم باتوا فئات نخبوية هامشية مهترئة ومشتته في الأفكار والأحزاب، ولم يعد لها حظ من الجماهيرية، وتفتقر إلى التنظيم السياسي والاجتماعي، وتعاني من محدودية تأثيرها في المشهد السياسي العربي برمته. بينما حركة الإخوان المسلمين وحماس تحديداً تتمثل بأفق جماهيري واسع وتنظيم دقيق وعلاقة وثيقة بالجماهير.
حزب الله وحماس لم يصبحا على طرفي نقيض، ولا الصحيح أن تبقى النخب والأحزاب العروبية خارج إطار التحفيز والاحتضان والدعم. وهنا يكمن الدور الاساسي للحزب في أن يعيد تجميع كل القوى المناهضة لأميركا وإسرائيل وسط هذا التدهور الخلقي والسياسي الكبير لتحديد وجهة المرحلة التالية من التاريخ. نعلم أن سماحة السيد يقود سفينة محملة بالأعباء بثقلها وضخامتها ولكن من غيره يقدر أن يوصلها إلى شاطئ الآمان!
* كاتب وأستاذ جامعي