لا يُخفي بعض مسيحيي 14 آذار انزعاجهم وامتعاضهم واستياءهم، وحتى توجّسهم وقلقهم، من حوار عون ــــ جعجع. بعض الأسباب شخصية فردية، متصلة بإرهاصات أي اتفاق بين الرابية ومعراب وانعكاسه على خارطة التحالفات الانتخابية على الساحة المسيحية. لكن بعضها الآخر يحمل مضامين أكثر سياسية. وهي تستحق البحث والتدقيق.
في المسألة الانتخابية، يدرك مسيحيو 14 آذار من المستقلين، أن اتفاق عون جعجع سيكون حتماً على حساب فضائهم السياسي. ففي الوقائع، هم يعرفون معنى أن تظهر نتائج استطلاعات الرأي العام لدى المسيحيين، تأييد ما يفوق التسعين في المئة منهم لهكذا اتفاق. ما يعني أن النتائج نفسها ستظهرها صناديق الاقتراع، لصالح أي تحالف انتخابي يضم عون وفرنجيه من جهة، وجعجع والجميل من جهة أخرى. شيء من محدلة حزب الله – حركة أمل، في المشهد المسيحي. حيث لا يعود هناك مستقلون ولا حياديون ولا وسطيون. لا بل أكثر من ذلك، يعي مسيحيو 14 آذار جيداً، أن البحث بين الرابية ومعراب يتناول، في ما يتناول، المسألة الانتخابية. قانوناً، وخارطة تحالفات. وهم يعون كذلك أن في خلفية كل من طرفي التفاوض، أن جزءاً من مكاسبه من الاتفاق المرتقب، هو إمكان تخففه من أعباء ما يسمى مستقلين في فريقه. والأهم حصاده لمقاعد هؤلاء، من دون منة حليف ولا جميل قانون.
غير أن مسيحيي 14 آذار المستقلين أنفسهم يعتبرون أمراً كهذا مؤذياً للحياة السياسية في الوسط المسيحي، وسلبياً حيال دينامية الشأن العام لدى المسيحيين. فهم يرون أن الوجود المسيحي هو وليد الدور، لا الشخص ولا الموقع ولا الأرقام. والدور المطلوب اليوم هو خطاب مسيحي وطني عام، يواكب عصرنا ومحيطنا وأفق المستقبل العالمي. يقول هؤلاء إن الخشية ليست من مجرد اتفاق بين الأقطاب. بل من أن يؤدي اتفاق كهذا إلى انغلاق مسيحي على ذاتية انطوائية في السياسة والقضايا الوطنية والمصيرية، فيما المرحلة حبلى باستحقاقات كبرى. يشرح هؤلاء بالحكي المباشر: نخشى أن يؤدي بنا اتفاق مسيحي ــــ مسيحي إلى إعادة وهم «القلعة المسيحية» التي نختبئ داخلها، فيما كل الجبهات مفتوحة على كل الاحتمالات. فيصير المشهد اللبناني كالتالي: ثمة طرف شيعي هو حزب الله، يقول إنه بات يمسك بقرار لبنان وسوريا والعراق واليمن وربما بلدان أخرى، وهو يفكر الآن في ما إذا كان سيتوغل في الجليل أو في الجولان، بينما المسيحيون غارقون في حوض رابع وموظفي كازينو وتعيين مدير كلية جامعية.
وفي المقابل، ثمة طرف سني، هو فريق الحريري، يكرس نفسه في موقع حارس الكيان اللبناني، ويتكرس بذلك محجة للسياسيين والدبلوماسيين والأطراف الدوليين، فيما المسيحيون مكرسون لسجالات سد جنة ومقاصة نفايات البلد، في أحسن الأحوال. يرى أحد أركان 14 آذار من المسيحيين المستقلين، أن هذا تماماً ما وسم تاريخ لبنان منذ الاستقلال، وهو ما نراه يتحول اليوم. فقصر القنطاري، مقر رئاسة بشارة الخوري وكميل شمعون، كان محجة الجهات والدول المعنية بلبنان، لأن موقع الرئاسة كان عنوان حراسة الهيكل اللبناني. جاء فؤاد شهاب، فأعطى عبد الناصر في الموقف الخارجي، ما دفعه إلى موازنة ذلك بنقل القصر إلى قلب كسروان، ليطمئن المسيحيين بأنه أعطى القاهرة لكن عنوان شرعية الكيان صار في جونيه. بعدها انزاحت الرئاسة تدريجياً صوب قلب لبنان، من سن الفيل إلى بعبدا، وظلت مرجعية شرعية الوطن، بمعزل عن دور جماعة أو حصص مذاهب... يرى الركن الآذاري المسيحي، أنه منذ العام 2005، انتقل هذا الدور والعنوان إلى البيت الحريري. لا لأن موازين القوى تبدلت. بل لأن سيد هذا البيت اختار خطاب شرعية الوطن، وأولوية الكيان. فصار الانتقال تلقائياً حتمياً. وهذا ما يخشى الركن نفسه أن يغفله اتفاق عون ــــ جعجع.
في المقابل، ثمة ما يغيب عن هذه القراءة، مما هو أمر واقع. ألا وهو أن ثمة موقعاً اسمه رئاسة الجمهورية، يجب أن يملأ. ولتحقيق ذلك تبدو المداخل أربعة نظرياً، لا خامس لها: أولاً، أن يُدفع ثمن الموقع إلى الخارج. تماماً كما تكرر الأمر في عهود عدة. بمعنى أن يستقوي شخص بدولة أو دول على بلده، أو أن يستقوي الخارج بوصي على البلد. ثانياً، أن تُطبخ الرئاسة بين طرف مسيحي وبين فريق أقلوي، من نوع بيضة القبان. بمعنى أن يتفق عون، أو جعجع، مع وليد جنبلاط مثلاً. فينتج عن الاتفاق رئيس دستوري، لكن بلا شرعية ميثاقية ولا حتى وطنية. وهو ما يبدو أن الثلاثة، عون وجعجع وجنبلاط، يرفضونه لحسن الحظ. ثالثاً، أن تأتي الرئاسة نتاج اتفاق بين قسم من المسيحيين، وباقي المسلمين. كأن يقنع عون الحريري، أو ينجح جعجع باستمالة النواب الشيعة. فيكون الرئيس دستورياً وميثاقياً، لكنه سيظل موسوماً بوصمة الاستقواء بشركائه المسلمين على باقي المسيحيين. يبقى الخيار الرابع، أن تبدأ الرئاسة بتوافق مسيحي ــــ مسيحي، يبنى عليه الإجماع الوطني أو شبهه. فيضمن كل دوائر الاستقرار والإقرار. من الداخل المسيحي على قاعدة المصالحة الكاملة وتطهير الذاكرة والاعتراف بأن كلنا قد أخطأنا وأننا كلنا نستغفر ونغفر. إلى المستوى اللبناني على قاعدة التوازن والتكامل، وصولاً إلى مقاربة قضايا الخارج بمنطق السيادة والتعاون ومقاربة تطورات المنطقة والعالم، بكل عناصر القوة اللبنانية، وبقدرة التأثير والانفتاح، لا مجرد التأثر والانعزال.
إنه التحدي المطروح على عون وجعجع، تحد تساهم في إنجازه وتحصينه ملاحظات كل الحريصين، وحتى «النقزانين».