جرت مياه كثيرة خلال الأعوام الـ40 التي مرت على استشهاد معروف سعد ورفاقه في تظاهرة صيادي السمك في 26 شباط من عام 1975 في صيدا. تغير النظام الدستوري للبلاد ليعكس التغيير في موازين القوى الاجتماعية ــــ السياسية نتيجة «حرب السنتين» ومقاومة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، لكنّ موازين القوى الاجتماعية ــــ الاقتصادية التي أتاحت قتل زعيم شعبي، «جهاراً نهاراً»، وعلى يد قوة عسكرية «رسمية»، باتت أكثر اختلالاً لمصلحة طبقة التجار والمصرفيين والمضاربين العقاريين، الذين استغنوا عن «واجهة» الزعامات التقليدية، وباتوا يمارسون الحكم بلا أقنعة وبلا قفازات.
في 26 شباط 1975، سارت تظاهرات للصيادين «على طول الساحل اللبناني، من صور إلى طرابلس، مروراً بصيدا وبيروت وجبيل»، احتجاجاً على منح شركة «بروتيين» امتيازاً لصيد الأسماك بواسطة بواخر صيد حديثة، ما رأى فيه الصيادون تهديداً لمصيرهم وقطعاً لأرزاقهم، رافضين التعويضات التي عرضتها الشركة عليهم، والتي لا تقيهم «التشرد والبطالة». لم يمنع تقدم نائب صيدا (السابق) معروف سعد والنائب (حينها) نزيه البزري تظاهرة الصيادين في صيدا عناصر الجيش من إطلاق النار، ما أدى إلى استشهاد سعد وغيره من المتظاهرين، إذ كانت الشركة تتمتع بنفوذ كبير، حيث كانت تضم كبار رجال الأعمال، ويساهم فيها رئيس الجمهورية الأسبق كميل شمعون؛ وكان الأخير «واجهة سياسية» لأمين عور، مؤسس الشركة وأحد كبار تجار المواد الغذائية، بحسب الوزير السابق الياس سابا.

لم تعد في لبنان
قوى اجتماعية ــ سياسية حقيقية تتصدى للاحتكارات


لا نواب يتقدمون تظاهرات مطلبية اليوم، ولا أحزاب أو قوى سياسية من أي نوع تتبنى تلك التحركات أو تدعمها. «صارت البنية الاحتكارية تتوسع وتشتد، فبات لبنان كله احتكارات، وخاصة بعد مجيء (رئيس الوزراء الأسبق رفيق) الحريري إلى السلطة»، فيما «جرى تدجين كل النواب وكل الأحزاب التي صار طموحها الالتحاق (بالنظام)؛ وخصوصاً بعد هزيمة (الرئيس المصري الأسبق جمال) عبد الناصر، التحقت الأحزاب التي كانت وطنية بالنظام، وفرغت الساحة من القيادات التغييرية الحقيقية»، يقول المدير السابق في مصرف لبنان غالب أبو مصلح، مشيراً إلى أن هزيمة (أو بالأحرى ضرب) الحركة الوطنية وعمقها الناصري أحدث فراغاً ملأته «موجة الليبرالية الجديدة المتوحشة والفوضى الرهيبة»، التي أصابت كل أوجه الحياة، وحصّنت في المقابل الاحتكارات التي باتت تقبض على أوجه الحياة جميعها.
«عوضك على الله، لا حراك اجتماعيا ولا أي شيء من هذا القبيل اليوم»، يقول سابا في ذكرى استشهاد سعد، الذي «راح وروّح معو الحراك الاجتماعي»، والذي كانت آخر محطاته الكبرى، فضلاً عن احتجاجات صيادي الأسماك، تظاهرات مزارعي التبغ ضد امتياز «الريجي» (إدارة حصر التبغ والتنباك)، بحسب سابا. طغت «العناوين المتعددة للحرب» على كل الحراك الاجتماعي، يقول سابا، شارحاً أن اتفاق الطائف، وإن غيّر تركيبة الحكم السياسية التي كانت «تحتكرها العائلات الاقطاعية الكبرى»، فهو لم يبدّل جوهر النظام. قبل الحرب، كان رجال الأعمال يمتنعون عن تولي مناصب السلطة مباشرة، فكانوا «يوظفون السياسيين المحترفين لخدمة أغراضهم»، وكان الصراع الاجتماعي ــــ السياسي ضد السياسيين والاحتكارات في الآن نفسه، يقول سابا. أبقى نظام الطائف الزعماء التقليديين، وأضاف زعماء الميليشيات إلى تركيبة السلطة؛ أما «الفريق الثالث» في نظام الطائف، أي رجال المال، فـ«كشف عن وجهه» وقفز إلى واجهة الحكم مباشرة، ممثلاً برئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. حينها «انقلبت الأدوار»، فصار رجال المال في واجهة النظام، وصارت الزعامات التقليدية تقف وراءهم وتنفذ أوامرهم، يقول سابا. في عهد الطائف، «توزع البلد على أمراء الحكم الجديد» بالتحاصص، ودُجنت النقابات وجرت السيطرة عليها كلياً، «فأي حراك حدث في هذه الحقبة، من أي نوع كان، كان ذاك الذي سمح به بعض رجال السلطة»، يجزم سابا، قائلاً إن الظاهرة الوحيدة التي خرقت النمط هذا كانت تحرك المعلمين (هيئة التنسيق النقابية)، الذي جرى «تنفيسه وتدجينه» في نهاية المطاف.
تحول الحراك الاجتماعي اليوم إلى نوع من «الحراك البديل»، يقول سابا، فحلت مكان الحراك المطلبي ــــ السياسي الشامل حملات فئوية المنطلق وجزئية الأهداف، كحملات «المناصرة» لحق المرأة بمنح جنسيتها لزوجها وأولادها، والحق بالزواج المدني، والحق بـ«حرية الكاريكاتور»! أما الاحتكارات، فلا تجد قوى اجتماعية ــــ سياسية حقيقية تتصدى لها، وكلما صغر حجم السوق، سهل احتكارها؛ ففي سوق صغيرة للغاية كالسوق اللبنانية، يمكن احتكار أي سلعة أو خدمة كانت، يقول سابا، سائلاً كيف يكون الحال بالأحرى في ظل انعدام أي رادع قانوني أو إداري فعلي في وجه الاحتكار؟ لا تناسب بين حجم السوق اللبنانية وحجم سوق الولايات المتحدة، «أمّ الاقتصاد الحر»، ومع ذلك، فقد صدر أول قانون لمنع الاحتكار في الولايات المتحدة عام 1894، أي منذ 121 سنة، بينما لا قانون لمنع الاحتكار في لبنان حتى اليوم، والنصوص الخجولة الموجودة لا تجد من يطبقها، يقول سابا.