في كل مرحلة من مراحل الامبريالية، أيديولوجيا حاكمة أو أداة أيديولوجية حاكمة؛ فمن ادعاء المسؤولية الغربية إزاء تمكين الأمم من «التحضّر» في عصر الاستعمار الكولونيالي، إلى النازية والفاشية اللتين حاولت أقسام من الامبريالية، بواسطتهما، تجاوز أزمة الرأسمالية واستعباد الشعوب، إلى معاداة الشيوعية باسم «الحرية» في عصر الحرب الباردة، إلى اقتصاد السوق المعولَم والنيوليبرالية المعادية للدول الوطنية، ودورها الاقتصادي الاجتماعي، في فترة القطب الواحد.
العنصر الأيديولوجي الأساسي في الرؤية الأميركية ــــ الغربية الجديدة نحو العالم، تبلور في منظومة ما بعد الحداثة، أو، للدقة، المنظومة المضادة للحداثة؛ فإذا كانت قيم الحداثة تقوم على الانتاج والعقلانية والإنسانية والموضوعية العلمية والدولة الوطنية ــــ القومية الخ؛ فإن فكر ما بعد الحداثة، يقوم على مركزية الأدوات المالية المصرفية ــــ العقارية ــــ الطاقويّة، واللا ــــ عقل، وتسخيف القيم الإنسانية، واعتبار الموضوعية، زائفة، ونفي المعايير البينية، وتفكيك الدول القومية.
في مواجهة هذا المسار الأيديولوجي، بدأت تتحرك دول قومية تستعيد قيم الحداثة، كما في روسيا ودول أخرى صاعدة، ذات توجهات حداثية. هذا التحدي، يختلف، نوعيا، عن التحدي الشيوعي؛ فهو يندرج في سياق التنافس الاقتصادي، ويشق الرأسمالية العالمية نفسها، ويدفع صوب نماذج رأسمالية قومية جديدة، ووسائل توسّع غير استعمارية. فالصين، توسعت عالميا من دون أن يتحرك جيشها خارج الحدود. وترفع روسيا راية القومية والدولة في عصر العولمة الغربية القائمة على اخضاع العالم، كليا، لنموذج اقتصادي اجتماعي ثقافي واحد، هو النموذج الأميركي. ويستعيد الروس، كأيديولوجيا، قيم الحداثة، وفي مقدمها الاحتكام إلى الشرعية الدولية.
في العقد الأخير من الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة، قد لجأت إلى الاسلام الوهّابي ــــ بتجلياته الاخوانية والتكفيرية الإرهابية ــــ للقيام بمعركتها النهائية مع السوفييت في أفغانستان؛ وحين سقط الاتحاد السوفياتي ومنظومته العالمية، وبدأت مرحلة القطب الواحد والنيوليبرالية المنفلتة، وجدت واشنطن أنه آن الأوان، لوضع سلاح الاسلام الوهابي في الأدراج، والشروع ــــ تحت تأثير المحافظين الجدد ـــــ بالتخلص من «عقدة فيتنام»، وإرسال الجيش الأميركي للقيام بمهمات الحرب، آمنا من توازن الرعب السابق مع موسكو؛ غير أن هذه التجربة، انتهت بتشكُّل «عقدة العراق». هنا، بدأ التفكير، مجددا، باستخدام الأدوات الوهابية، مرةً أخرى؛ فجرى اضعاف واغراق المقاومة العراقية ــــ ذات المثابرة والكثافة النارية غير المسبوقة ــــ في الحرب الأهلية المذهبية، والتمكين لانتشار ميليشيا «القاعدة» التي حولت الصراع في العراق، من مقاومة الاحتلال إلى مقاومة المكوّنين الشيعي والمسيحي. وقع هذا الخيار في العراق، في العام 2005، متزامنا مع تحشيد مذهبي «ليبرالي» في لبنان وسوريا، انفجر في اغتيال رفيق الحريري، المنسق العام للانقلاب الأميركي ــــ السعودي ــــ المذهبي في البلدين.
لم ينجح المشروع الأميركي في لبنان وسوريا، لكنه نجح، جزئيا، في العراق الذي، مع ذلك، استطاع أن يحول الحرب الأهلية من مستوى التوتر العالي إلى حرب من المستوى المنخفض.
بدأ التحضير للتغيير الايديولوجي نحو اعتماد الوهّابية كأداة أيديولوجية للامبريالية في عصر ما بعد الحداثة، منذ، وبانتخاب، باراك أوباما (المسلم السابق، الأسمر البشرة) رئيسا للولايات المتحدة، العام 2009؛ بدأ بخطاب ودي استرضائي نحو الإسلام والمسلمين بعامة، وأوقف «الحرب على الإرهاب»، وبدأت إدارته حوارا مع الإخوان المسلمين، تُوّج، في العام 2010، بتفاهم استراتيجي، سبق ما سُمّي «الربيع العربي»؛ مرحلة قصيرة من التفكيك، يتلوها سيطرة الإخوان المسلمين على مفاصل المنطقة. ولعبت كل من تركيا وقطر، الدور الرئيسي في تفعيل هذا المسار.
بصمود سوريا، والتحامها مع المقاومة في لبنان، وقيام تحالف روسي ــــ ايراني لدعم دمشق والتصدي لمنتجات «الربيع» الأسود، ونجاة مصر من حكم الاخوان، واستمرار الحراك في البحرين، وانبثاق قوة الحوثيين في اليمن؛ بكلّ ذلك وسواه من مظاهر نشوء جدار مضاد للإمبريالية، ذهبت واشنطن نحو الخيار الوهّابي الإرهابي حتى منتهاه؛ لقد أظهرت أزمة أوكرانيا، ضعف الفاشية في أوروبا، بينما محدودية عديد اليهود في العالم، والطابع الاثني الضيّق للدين اليهودي، وعزلة إسرائيل، تجعل الفاشية الصهيونية خارج المنافسة؛ أما المسيحية، فمن الواضح أنها تعلمنتْ، نهائيا.
الاسلام الوهّابي الحركي، بكل أشكاله السياسية والإرهابية المتداخلة، يسمح للإمبريالية (1) بتحشيد دول ومليشيات، وراءها، في الإشعال المستمر للحروب الأهلية العربية، (2) وبشن العدوان على البلدان العربية المركزية (العراق، سوريا، مصر) بواسطة الميليشيات المدارة مباشرة أو عبر تركيا ــــ السعودية ــــ قطر، (3) تهديد روسيا وايران وحتى الصين بالإرهاب؛ (4) وبالمقابل، فإن اعتماد الأيديولوجية الوهّابية بالمقلوب، يسمح للإمبريالية، بالتحكم بالشعوب الغربية، واخضاعها للإسلاموفوبيا.