«باعوا طرابلس»، «خونة»، «غير جديرين بالثقة» و«أذناب السياسيين». هذه العبارات هي بعض ما قيل على مواقع التواصل الاجتماعي بحق رئيس بلدية طرابلس وأعضائها، بعد تراجعهم، أمس، عن قرار اتخذوه بالإجماع في 17 الجاري، عندما رفضوا مشروع مجلس الإنماء والإعمار لإقامة مرأب للسيارات تحت الأرض في ساحة جمال عبد الناصر وسط منطقة التل.
مجلس البلدية انعقد أمس تحت ضغوط رئيس كتلة المستقبل سعد الحريري، وأعلن موافقته على المشروع. تبريرات كثيرة حاول الأعضاء تقديمها لتفسير «الانقلاب» على قرار اتخذوه بأنفسهم قبل أن يتراجعوا عنه بنحو دراماتيكي. ما حصل أثار الكثير من الاستغراب والاستياء في مدينة طرابلس، وجعل البعض يصف رئيس البلدية والأعضاء بـ»الدمية» بين أيدي القوى السياسية المهيمنة على قرارهم.
قصّة رجوع البلدية عن قرارها تعود إلى يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، بعدما استقبل الرئيس سعد الحريري، في منزله في وسط بيروت، رئيس بلدية طرابلس وأعضاء البلدية في لقاءين منفصلين، انتهى إلى رضوخ ممثلي السلطة المحلية في عاصمة الشمال لإملاءات الحريري، على الرغم من تنوّع انتماءاتهم السياسية.
بعض أعضاء بلدية طرابلس كشفوا لـ»الأخبار» بعضاً ممّا دار في اللقاء الذي جمعهم مع الحريري، الذي دام قرابة ساعة وربع ساعة، وشارك فيه 16 عضواً، بمن فيهم العضو المستقيل عبد الله الشهال المقرّب من تيار المستقبل.
قدّم الحريري إغراءات، في مقدمها تنحية غزال عن رئاسة البلدية

ووفق المعلومات، فإن الحريري بعدما صافح الأعضاء فرداً فرداً، وبعد جلوسه على كرسيه، وضع يده على الطاولة، وقال بحزم: «مشروع المرأب بدّو يمشي!».
تفاجأ الأعضاء بحسم الحريري الموضوع بلا أي نقاش، وعندما لفت بعض الأعضاء الذين طرحوا مشروع قصر الثقافة والمؤتمرات بتمويل تركي كبديل للمرأب، في موقع السرايا العثمانية التي هدمت عام 1968، ردّ عليهم باستغراب: «كيف تتوقعون أن تدفع تركيا مبلغ 50 مليون دولار لإقامة مشروع كهذا وهي تعاني من وضع اقتصادي صعب؟»، قبل أن يعلق قائلاً: «أنتم تبنون قصراً في الهواء!».
ولفت الأعضاء إلى أن الحريري «بدا مستعجلاً جداً في إقرار المشروع وضمان موافقة البلدية عليه، بعد رفضها له، والدليل على ذلك استقباله لأعضاء البلدية واستماعه إليهم، وهو الذي لم يكلف نفسه على مدى أكثر من 4 سنوات ونصف الالتقاء بهؤلاء الأعضاء أو الإنصات إلى شكاويهم».
لكن الحريري، وفق الأعضاء، عرض عليهم «مقايضة» لإرضائهم شكلياً، تقوم على جانبين: الأول موافقته على طلبهم تنحية غزال من البلدية من منصبه والإتيان بآخر، والثاني عدم اعتراضه على إقامة قصر للثقافة والمؤتمرات فوق المرأب بقوله لهم: «افعلوا ما ترونه مناسباً»، وهو ما جعل عضواً يعلق: «إن الحريري بعد أن يحصل منا على ما نريد بدا كأنه يبيعنا سمكاً في البحر، لأنه ما الذي يضمن أنه سيفي بوعوده لنا، وكيف سيُبنى قصر للثقافة فوق المرأب إذا كانت الهبة التركية غير مضمونة، وأي جهة رسمية لم تقدّم عرضاً بهذا المعنى؟».
نوّاب التيار الأزرق ووزراؤه في عاصمة الشمال غيّروا خطابهم بعد إعلان موقف الحريري، إذ بعدما اعتبر أحد نواب المدينة أن المشروع يضرّ بطرابلس وسيحدث فيها فتنة، رأى بعد مقابلته الحريري أن المشروع ضروري لإنماء المدينة.
في موازاة ذلك، نقل أعضاء سابقون في البلدية ونقباء مهن حرة عن وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، بعدما شرحوا له أن تكلفة المشروع المفترضة لا تزيد على 8 ملايين دولار، فلماذا خصص له 24 مليوناً، ولماذا بلغت تكلفت مشروع دراسته 430 ألف دولار، أجاب: «بقية المبلغ سنستخدمها في مشاريع أخرى!».
فضائح المشروع لم تقتصر على هذا الجانب، فخلال لقاء الأعضاء مع الحريري، وبعدما أبلغوه أنهم رفضوا الموافقة على مشروع لم يطلعوا على خرائطه، جرى استيضاح الأمر، ليتبين أن مجلس الإنماء والإعمار، المعني بتنفيذ المشروع، كان منذ قرابة ستة أشهر على الأقل يراسل رئيس البلدية حول الموضوع، لكن غزال كان يخفي هذه المراسلات عن الأعضاء.
اللغط حول المشروع امتدّ أيضاً ليشمل الجانب التركي. فخلال زيارة غزال وأعضاء في البلدية يوم الاثنين الماضي السفير التركي في بيروت، إينان أوزيلديز، كشف الأخير أن وزارة خارجية بلاده لم تخبره بأي أمر يتعلق بهبة الـ50 مليون دولار لطرابلس، وأنه سيرسل كتاب بلدية طرابلس، الذي تسلمه، إلى حكومة بلاده طلباً لهذه الهبة، ما دفع أعضاءً في البلدية إلى القول إن الهبة التركية «غير جدّية، ولا يمكن البناء عليها».
هذا الضياع والارتباك أظهر وجود تجاذب سياسي غير معلن في طرابلس حول الهبة التركية. فقد تبين أن تيار المستقبل يعارض أي مشروع تركي في طرابلس، انطلاقاً من خلفية التزامه مع السعودية في صراعها مع الأتراك، إلى حد دفع مسؤولاً في تيار المستقبل في طرابلس إلى القول «إن كل الإرث العمراني العثماني في طرابلس لا يعنيني!».
وفي سبيل إيجاد مخرج لهذه الأزمة، اقترح عضو البلدية خالد صبح، خلال اللقاء مع الحريري «المواءمة» بين المشروعين، أي إقامة مرأب تحت الأرض، شرط أن يكون مفتوحاً أمام كل الناس وليس لمواقف السيارات العمومية، وبعدها إقامة قصر الثقافة والمؤتمرات فوقه، وهو اقتراح بدا أنه يحظى بموافقة أكثرية الأعضاء، ويحفظ ماء وجههم، وإن كان غير مضمون تنفيذه لاحقاً.
لكنّ مؤيدي الهبة التركية، وعلى رأسهم عضو البلدية خالد تدمري، رأى أن اقتراح المواءمة «هو إفشال لمشروع قصر الثقافة والمؤتمرات، وإعطاء الضوء الأخضر للبدء بتنفيذ مشروع المرأب»، متوقعاً أن يلقى الاقتراح اعتراضاً داخل البلدية، وإن كان الاعتراض لا يكفي لإسقاطه.
بالتزامن مع انعقاد جلسة المجلس البلدي في سرايا طرابلس، أمس، نفّذ ناشطون اعتصاماً احتجاجياً. وقالت الهيئات المحتجة إن «وسط مدينة طرابلس لا يقل أهمية عن وسط بيروت من حيث الغنى التاريخي، ومن حيث دوره في إحياء المدينة التي تتلاشى، وفقاً لتعبير الأمم المتحدة. وبناءً عليه، يجب أن يكون التعامل مع الوسط وفقاً لرؤية شاملة». واستغربت الهيئات «تعجيل الأمور والضغط على المجلس البلدي لإمرار المشروع، بعد أن جرى التوافق مع السياسيين على أنه لن يفرض شيئاً على المدينة وأهلها كما حصل في السابق في مشاريع قائمة تشهد على خطأ وعدم صدقية من فرضها على المدينة». ودعت الهيئات أعضاء المجلس البلدي «إلى التمسك بقرارهم الذي لم يمضِ عليه أسبوع، لأن الأسباب الموجبة لرفض المشروع ما زالت قائمة».




حضر جلسة مجلس بلدية طرابلس 17 عضواً، وانتهت إلى قرار بالرجوع عن قرار سابق يرفض إقامة مرأب للسيارات تحت ساحة التل، وقبول إسقاط عقارين في الساحة طلبهما مجلس الإنماء والإعمار لتنفيذ المشروع، والتمني على المجلس تعديل الدراسة بما يسمح بإنشاء السرايا القديمة فوقه، وتشكيل لجنة من المهندسين الأعضاء في البلدية ومن مصلحة الهندسة لمتابعة الموضوع والتنسيق مع المجلس.
لكن هذه القرارات لم تحظ بإجماع الأعضاء، كما حصل في الجلسة السابقة، فقد عارضها خالد تدمري وعمار كبارة وتحفظ عليها عزت دبوسي، بينما صوّت الأعضاء الـ14 الآخرون لملصحة المشروع. وعلق تدمري على القرارات بأنهم «يريدون تنفيذ المرأب ولاحقاً يعدوننا بوضع مخطط شامل للمنطقة، أي بالمقلوب. فأي تخطيط هذا؟ بئس هكذا مشاريع ستتحول إلى بؤرة»، وتساءل: «كيف سنقنع الأتراك وغيرهم بعد اليوم بتنفيذ مشاريع في مدينتنا إذا كنا نعود عن قرارات نتخذها بعد أيام؟».