تطوّرات كثيرة سبقت اتفاق مينسك 2 لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وتطورات كثيرة أعقبتها على صعيد الحركة الروسية العسكرية والدبلوماسية، قد تكون بمثابة تكوين أحلاف جديدة لموسكو، وفرض مزيد من النفوذ الروسي في مواجهة الغرب، بدأ أوّلها باتفاق مع المجر لتبادل الغاز الطبيعي، وصولاً إلى اتفاقية مع قبرص تسمح للبحرية الروسية باستخدام مرفأ قبرصي. كذلك تحمل هذه الحركة ثقة روسية وثقة من الدول المتعاونة مع روسيا بحليفهم الجديد.
إعادة رسم لخريطة الغاز الطبيعي في أوروبا

«من يعتقد أن أمن الطاقة في أوروبا يمكن أن يتحقق من دون روسيا، فهو يطارد الأشباح»، هذه الكلمات ليست لمسؤول روسي، بل هي تصريحات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عقب زيارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمجر في 17 شباط الحالي، نتج منها اتفاق روسي ـ مجري حول تبادل الغاز الطبيعي. مطاردة أشباح هي إذاً محاولة الاتحاد الأوروبي عزل روسيا عن محيطها، أو الغرق في الاستنتاجات حول إمكانية تراجع روسيا الاقتصادي والسياسي في القارة العجوز، والتعويل على عقوبات ضدّ موسكو، لم تعط نتائجها المرجوة حتى هذه اللحظة.
لا شكّ أن لروسيا نفوذاً كبيراً على المجر، ليس بمعنى الاستبداد، بل بمعنى الارتباط التاريخي والاقتصادي الذي يفرضه الواقع الجغرافي. تزود روسيا المجر بـ 80 في المئة من إمدادات الغاز الطبيعي التي تحتاجها. كذلك، تعتبر روسيا ثاني أكبر شريك تجاري للمجر بعد الاتحاد الأوروبي الذي تنتمي إليه المجر منذ عام 2004.
ما يخيف الاتحاد الأوروبي إذاً، بدأ في الحصول على أرض الواقع. بدايةً، استعادت روسيا القرم وجنّبت وقوع أوكرانيا في مدار حلف شمال الأطلسي، امتصت عقوبات الغرب رغم الهزة الاقتصادية التي تعرضت لها، وها هي اليوم تطرح نفسها شريكاً اقتصادياً لبودابست قادر على منافسة الاتحاد الأوروبي، ما قد يشكّل بداية لإعادة دول أوروبية عديدة محاذية لروسيا النظر في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي أو وجودها فيه.
امتعاض أوروبي رافق هذه الزيارة، وقلق رافق الاتفاق الذي تمخض عنها، فروسيا ستستمر في إمداد الغاز إلى المجر، بالإضافة إلى تعزيز المنشأة النووية المجرية برعاية روسية مع حلّ لكلّ الخلافات السابقة في هذا المضمار.
ستشكّل المجر بديلاً من أوكرانيا لإمداد الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت تصريحات رئيس الوزراء المجري بعد توقيع هذا الاتفاق أن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يحلّ محلّ روسيا بالنسبة إلى المجر، فقد أكد صراحةً أن «المجر تحتاج روسيا» كشريك لها على الصعيد الاقتصادي، ما يظهر أن الأخير ينتهج سياسة الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي مقابل مزيد من التقارب مع روسيا.
على الأرض، ستشكّل المجر بديلاً من أوكرانيا لإمداد الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، حيث إنه بعد تأزم العلاقة الروسية مع «الأطلسي»، ألغت روسيا «ساوث ستريم»، وهو المشروع الذي يمدّ أوروبا بالغاز من طريق بلغاريا، وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وستصبح طريق الغاز تمرّ عبر تركيا، اليونان، المجر، لتصل منها إلى دول أوروبا الغربية، أي إن «ساوث ستريم» لم يُلغَ تماماً، بل أعيد رسم طريق أنابيبه، مع استبعاد لأوكرانيا عن خريطة إمداد الغاز. الأكيد إذاً أن أوروبا لن تستغني عن الغاز الطبيعي الروسي، وفرض مزيد من العقوبات يشبه الدوران في حلقة مفرغة، فروسيا، رغم كلّ العقبات، ستظل تغذي أوروبا بالغاز، ولكن بالشروط الروسية وبثقة القادرة على تكوين علاقات ثنائية جيّدة مع دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، ومن ضمنها المجر، الأمر الذي سيعزز من موقعها ليس بالضرورة كبديل للاتحاد الأوروبي، بل كشريك أساسي قادر ـ على الأقلّ ـ على التحكّم بـ«حديقته الخلفية».
وعلى طريق المجر، تسير صربيا، فقد أعرب نائب رئيس الحزب «الديموقراطي»، ميلان لابتشيفيتش عن الرغبة الصربية في التعاون مع روسيا في مشروعها الجديد للغاز الطبيعي، بحسب ما نقلت عنه وكالة «سبوتنيك» الروسية أول من أمس. وظهر السرور الصربي حول هذا المشروع الجديد وتفاؤلهم فيه، حيث أعلن لابتشيفيتش أنهم «مسرورون جداً، لأن روسيا تفكر في المشروع المارّ عبر تركيا، وصربيا ترى أنه يصبّ في مصلحتها»، فهو قد يجعل منها عاملاً استراتيجياً مهمّاً في مجال الطاقة.

اليونان أيضاً

المجر وصربيا ليستا الوحيدتين الساعيتين إلى التقرب من موسكو، اليونان أيضاً بدأت تبحث عن مزيد من التقارب مع موسكو، خاصة أنه بعد فوز حزب «سيريزا الاشتراكي» في الانتخابات اليونانية بدأ اليونانيون مرحلة جديدة، رامية إلى إيجاد السبل الكفيلة في دحر وطأة الضغط الاقتصادي الذي فرضه عليهم الاتحاد الأوروبي، ومن هو البديل الاقتصادي المثالي؟ روسيا بطبيعة الحال.
رغم كلّ العقبات، ستظل روسيا تغذي أوروبا بالغاز، لكن بشروطها

السياسة الاقتصادية اليونانية الجديدة تقضي بعدم الرضوخ لأساليب التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان بعد إنقاذها من أزمتها الاقتصادية، وبالتالي عدم دفع ديونها، وهو أمر ليس جميل الوقع على الأوروبيين، خاصة أن اليونان قد بدأت فعلاً بتعزيز علاقتها الثنائية مع روسيا، بدءاً بالاتفاق على المشروع الآنف الذكر لأنابيب الغاز «ساوث ستريم» الذي سيمرّ عبر الأراضي اليونانية. هذا الاتفاق بين بوتين ورئيس الوزراء اليوناني أليكسي تسيبيراس، سيعود بفائدة كبرى على اليونان، ففضلاً عن العائدات المالية لهذا المشروع الذي لا يزال على الورق، ستتمكن اليونان عبره من اكتساب موقع استراتيجي بارز على خريطة الطاقة الأوروبية، لم تكن لتتمكن من حصده لو بقيت تتبع سياسة الاتحاد الأوروبي. الإشكالية تكمن هنا في أن اليونان عضو في حلف شمال الأطلسي، وهو ما زاد مستوى القلق لدى دول هذا الحلف ودول الاتحاد الأوروبي كذلك، ولعلّ ما ذكرته وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين بشأن هذه النقطة خير دليل على التخوّف ـ إذا ما أردنا أن نقول الهلع ـ الغربي، إذ ذكرت أن «اليونان تهدد جدياً موقعها في حلف شمال الأطلسي إذا ما استأنفت تقاربها مع موسكو»، وهو ما اعتبره وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس بمثابة «ابتزاز» يضعف، في الواقع، موقف «الأطلسي» والاتحاد الأوروبي.
لا تنتهي المفاجآت الروسية عند عام 2014، فلم تكن عودة القرم إلى روسيا هي آخرها، إذ إن الأحداث التي تدور في أوروبا اليوم تبدو مترابطة بشكل غريب يصبّ في المصلحة الروسية. لكن في عالم الدول لا مكان للصدف، بل إن الاستراتيجية الروسية الاقتصادية تبدي صوابيتها في تحديد موقع روسيا النافذ في العالم. إنه الغاز الطبيعي، هذا السلاح الذي لا يستهان به، مترافق مع جهد عسكري ودبلوماسي بارز، كلّه يؤكد أن «الدب الروسي» قد استيقظ.







... وفي العسكر أيضاً

ليس الغاز الطبيعي وحده الذي بدأ يشعل نار الحذر لدى الغرب، فالحركة العسكرية الروسية من القطب الشمالي إلى الشرق الأوسط بدأت تدفع نحو طرح تساؤلات عديدة حول فعالية العقوبات الغربية على موسكو، إذ إن هناك حلفاً إقليمياً جديداً لدول حوض البحر المتوسط يمكن أن يضم بعض البلدان الأوروبية والعربية، مثل اليونان وقبرص ومصر، بدأت بوادره تتشكّل بعد الحركة الدبلوماسية الروسية الواسعة في الأشهر القليلة الماضية. وفي هذا السياق، أعلن الرئيس القبرصي نكوس أنستادياس من موسكو أن روسيا ستستطيع استخدام قاعدة «أندرياس باباندريو» الجوية، وكذلك بإمكان السفن الحربية الروسية الدخول إلى ميناء «ليماسول» بصورة دائمة.
من جهة ثانية، تظهر المساهمة الروسية في البحث عن طرق لحلّ القضايا العالقة في المنطقة العربية بدءاً من سورية وصولاً إلى ليبيا بالتعاون مع مصر كما ذكرت وكالة «سبوتنيك» الروسية، إضافة إلى استعداد روسي لتقديم العون إلى مصر خاصةً في عملياتها لمكافحة الإرهاب، سواء بالسلاح أو بالمعلومات، «غير أن موسكو لا تستعجل في منح الضوء الأخضر لعمليات تدخل أجنبي جديدة، ذلك أن مخاطر العواقب كبيرة سواء لدولة بعينها أو لمنظومة العلاقات الدولية برمّتها» بحسب ما نقلت الوكالة عن مصادر دبلوماسية روسية.
وأخيراً وليس آخراً، أعلنت موسكو إقامتها مؤتمراً عسكرياً لثمانين دولة حول العالم في نيسان القادم، بحسب ما نقلت وكالة «سبوتنيك» عن نائب وزير الدفاع الروسي أناتولي آنتونوف الأربعاء الماضي. هذا المؤتمر سيتحدّث عن أبرز تهديدات الأمن العالمي والسبل الكفيلة للتعاون لحلّها بين هذه الدول وروسيا.
يترافق هذا الإعلان مع عقيدة عسكرية ـ دفاعية جديدة للجيش الروسي ستظهر في منتدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الثلاثاء المقبل في فيينا.