احتلت العمليات الفردية التي نفذها أبناء وبنات الشعب العربي الفلسطيني، حيزاً كبيراً، فاعلاً ومؤثراً، في أسلوب المواجهة والصدام مع المشروع الكولونيالي/ الصهيوني لوطننا. وتنبع أهمية وثورية واستثنائية تلك العمليات في لحظات الكمون الشعبي الجماعي _الناتج من ضغط عوامل عدة سأتوقف عندها لاحقاً_ لكونها أحد أشكال التعبير العفوي عن العنف الثوري الرافض للاحتلال والقتل وطرد البشر واقتلاع الشجر ونسف وتدمير حجارة البيوت.
وإذا كان العمل المقاوم الذي يقوم به الفرد، يتسم بوحدانية المُنَفِّذ «الدهس بالسيارة أو الجرافة، الطعن بالسلاح الأبيض، القنبلة الحارقة واستعمال المسدس والبندقية»، فإن هناك نوعين مختلفين: الأول، قيام الفرد_غير المنتمي لحركة أو فصيل أو تنظيم _ لكنه المسكون ببيئة وتراث الثقافة الوطنية، وأسلوب عمل المقاومة المسلحة في مواجهة الغزاة المحتلين، بتنفيذ ماخَطَطَ له. الثاني: الملتزم تنظيمياً، والمكلف كفرد، بالتنفيذ. لكن قسماً كبيراً من أجهزة الإعلام الذي يتحدث عن «الذئاب المنفردة»، في تغطيته لعمليات أعضاء المنظمات الإرهابية المسلحة، أشار في أكثر من مناسبة لتلك «الذئاب» عندما يكتب عن عمليات المقاومة الفردية العنيفة التي ينفذها أبناء وبنات شعبنا، وهو ما يتطلب إعادةً للتداول والتعميم للمصطلح الواقعي والأخلاقي الذي يجب إطلاقه على الإنسان، المنفذ أو المنفذة، للعملية النوعية ضد المحتل الغازي. إن صفة المقاوم، أو المضحي، أو المجاهد، هي التي تليق بأبطال وبطلات «العمليات الفردية».
إن تطوير أساليب وأشكال المواجهة مرهون ببرنامج عمل ثوري


الهبة والانتفاضة: أدوات كفاح جماهيرية

لم تكن انتفاضة عام 1987 هي الأولى، وبالتالي، لم تكن انتفاضة عام 2000 هي الثانية، بل كانتا، محطتين، في درب الكفاح الوطني الشعبي. فمنذ وصول أوائل المستعمرين اليهود في نهاية القرن التاسع عشر للأراضي الفلسطينية، لجأ أصحاب الأرض الأصليون للمقاومة الشعبية، وكانت للحجر مكانته، وللاحتجاج والرفض وظيفته. بدأت المقاومة الجماهيرية التي انخرطت بها شرائح اجتماعية واسعة، تتجذر مع وصول عساكر الاحتلال البريطاني لفلسطين، كما ظهرت في انتفاضة موسم النبي موسى في 1920، وهبة البراق 1929، لتنتقل لمرحلة أكثر اتساعاً مع الثورة الكبرى عام 1936، لتشكل هبة يوم الأرض 1976 بداية انعطافة حاسمة في نضال الجماهير العربية داخل الأراضي المحتلة عام 1948. وفي العقود الأربعة الأخيرة، شكلت انتفاضة 1987 وهبة النفق 1996، وانتفاضة 2000 التي فجرت حراكاً واسعاً في الجزء المحتل منذ عام 1948 عُرف بـ «هبة أكتوبر»، حلقات في سلسلة النضال الوطني الفلسطيني المستمر والمتجدد.

الدوافع/ الأسباب التي توفر شروط الانتفاضة

- أولاً: فشل نهج أوسلو في التطبيق
حمل اتفاق أوسلو شهادة وفاته منذ اللحظة الأولى لولادته. لم تكن البنود المعلنة معبرة عن طموحات وطنية، بمقدار ما كانت محاولة للالتفاف على امكانية تطوير الحالة الشعبية وتوسيع دائرة الاشتباك وتجذيره مع المحتل. لقد قَدَّمَ الاتفاق «وهماً» عن امكانية الوصول لدولة خلال بضع سنوات، وصدق البعض «الذي بنى على الوهم... سلطة» أن المفاوضات، وما سمي «السلام الاقتصادي» سيضخان بشرايين الاتفاق، الدم والأوكسجين في محاولة يائسة وبائسة، بعد موته السريري.
- ثانياً: فاشية المحتل وتغول عصابات المستعمرين قتلاً وعربدة
مع نزوع التجمع الاستعماري الصهيوني للمزيد من الفاشية في الكيان/ الثكنة، من خلال تشريع حزمة قوانين عنصرية، تترافق بتصعيد مستمر في تهويد الجليل والنقب واستعمال الرصاص في قمع احتجاجات المواطنين العرب كما حصل مع الشهيد الشاب خير الدين حمدان في بلدة كفر كنا وسامي زيادنة وسامي جعارة في مدينة رهط، ومع اتساع عمليات التصفية والملاحقة والاعتقال ومصادرة الأرض والتدنيس المستمر للأماكن الدينية (إسلامية ومسيحية) والاستباحة شبه اليومية للمسجد الأقصى وسرقة المياه الجوفية وتدمير الزراعة _ الزيتون كمورد رزق لآلاف العائلات_.

العوامل التي ساهمت في إضعاف الحراك الشعبي وعدم تطويره

أولاً: التنسيق الأمني. أنتجت رهانات السلطة على نهج المفاوضات بما يفرضه من ضرورة توفر مناخ التهدئة، على توجيه ضربات قاسية للمقاومين، أعضاء التشكيلات المسلحة، تحت دعاوى مضللة كـ «القضاء على الفلتان الأمني» على يد ما سمي «الفلسطينيون الجدد» الذين تمت عمليات غسل أدمغتهم و»برمجتها» في معسكرات «إعادة التأهيل» التي أشرف عليها خبراء عسكريون ونفسيون أميركيون، وهو ما ظهر جلياً في إعطاء المعلومات عن المقاومين، وفي القمع الوحشي للاحتجاجات الشبابية التي شهدتها مدينة رام الله المحتلة، والجامعات، في أكثر من مناسبة، كانت قد نظمتها قوى الحراك الشبابي، في مناسبات عدة.
ثانياً: الوضع الاقتصادي والاجتماعي لقطاعات واسعة
صاغ خبراء الاقتصاد النيوليبرالي في السلطة، خططاً تقوم على منع أية سياسة تنموية حقيقية، مع الدفع باتجاه تعزيز «ثقافة الاستهلاك»، والتملك، لسيارة أو شقة، وجعل قطاعات واسعة تعتمد على الوظائف بأجهزة السلطة، وعلى فتح أبواب البنوك لتقديم القروض، ما أدى لتصبح قطاعات واسعة «مرهونة» للبنوك، إذ بلغ إجمالي القروض ما يقارب خمسة مليارات دولار.
ثالثاً: الانقسام الداخلي والاصطفافات الملتبسة أدت حالة التشرذم بين الحركتين الممسكتين بالجغرافيا والمجتمع و»السلطة!» في الضفة وقطاع غزة، وبالتالي استتباع الاصطفافات حولهما، والتلاسن الإعلامي بما يحمله من مهاترات، إلى إضعاف اللحمة المجتمعية والسياسية في مواجهة العدو. وهذا ما ظهر في غزة، والقدس المحتلة، همساً أو صراخاً، من خلال الهتافات التي عبّرت عن الألم الشعبي العارم الناتج من الصمت الشعبي الذي يلف الضفة: «يا ضفة يللا يللا، ياضفة منشان الله»!

شعب يقاوم وسلطة تساوم

عبّرت العمليات الفردية عن حالة ثورية عكست درجة التضحية العالية لدى الفرد، المقموع والمستباح «أرضاً ومسكناً ومقدسات» في ظل حالة سياسية ومجتمعية غير موحدة، تعاني من أزمات عدة. وعلى الرغم من اجراءات العدو القمعية، وبؤس النهج الذي تتبعه السلطة في رام الله المحتلة (الوكيل الأمني) في إدانتها للعمليات، فإن البيئة الشعبية التي أفرزت عشرات الشباب والشابات، أبطال العمليات الفردية/ الاستشهادية، ما زالت حيّة وفاعلةً وقادرة على الحراك الثوري. إن متابعة دقيقة لمواقع الاشتباك مع العدو في شهر كانون الثاني/ يناير 2015، تظهر لنا القدرة الكفاحية لشعبنا، فقد تحددت أكثر من 357 نقطة مواجهة عند نقاط التماس الموزعة في الضفة المحتلة، وهي تشير إلى ارتفاع نسبته 500 في المئة، مقارنة بالشهر ذاته من عام 2014 الذي شهد 70 نقطة مواجهة فقط، كانت لمدينة القدس المحتلة ومحيطها النسبة الكبرى (95 نقطة). وقد أصيب خلال ذلك الشهر 48 مستعمراً بين مستوطن وجندي، وهو رقم مرتفع مقارنة بإصابة خمسة مستعمرين في الشهر ذاته من عام 2014. وقد كانت لعملية الطعن التي نفذها حمزة المتروك، ابن مخيم طولكرم في حافلة داخل مستعمرة تل أبيب في الواحد والعشرين من من شهر كانون الثاني/ يناير 2015، دلالة مهمة في التوقيت والمكان، بخاصة، في قراءة العدو للحدث الذي قال عنه اسحاق هرتزوغ، رئيس حزب العمل وزعيم التحالف المسمى «المعسكر الصهيوني» لانتخابات الكنيست المقبلة: «لا يوجد اليوم أي إحساس بالأمان عند سكان إسرائيل، سواء في القدس، أو في غلاف غزة، أو في تل أبيب»!

الخلاصة

لا يمكن التعامل بنهج الفصل الميكانيكي بين العمليات الفردية والحراك الشعبي الواسع (الانتفاضة)، أو التجمعات الاحتجاجية المتنقلة (الهبة) المرتبطة باعتداءات/ اقتحامات قمعية وحشية، أو جريمة قتل مواطن، ينفذها العدو. إن ما تراكمه تلك العمليات، يمكن أن يؤسس لبرنامج نهوض سياسي واقتصادي واجتماعي تصوغه قوى سياسية وتيارات وهيئات أهلية، ذات موقف ثوري، تضع في حساباتها مواقف ووظيفة أجهزة السلطة الأمنية في تصديها وقمعها لأية انتفاضة شاملة، استناداً إلى موقف قيادة السلطة المعلن في رفضها وعدائها لهذا التحرك الشعبي الواسع والمستمر»الانتفاضة» وحتى لـ»رمي الحجر»، فكيف باستخدام السلاح الناري؟
إن تجربة السنوات الأخيرة، كشفت عن خطة عمل منهجية، منظمة، لتغييب وإنهاء أي دور للمنظمات الجماهيرية/ النقابات، مترافقة مع إنشاء للمنظمات غير الحكومية («إن. جي. أوز» NGOs) وتشريع عملها، ما أدى إلى استقطاب أعداد كبيرة من الشباب والشابات في برامج عمل مجتمعية، تطوعية_ لكنها مدفوعة الأجر وبسخاء لافت _ بعيدة من الدور الوطني والكفاحي بمواجهة الاحتلال.
إن تطوير أساليب وأشكال المواجهة التي تخوضها الجماهير داخل الوطن المحتل، وصولاً إلى انتفاضة شاملة، مرهون ببرنامج عمل ثوري، سياسي واقتصادي واجتماعي، يعبّر عن خصوصية كل ساحة مواجهة في الوطن المحتل (1948 و1967) يؤدي إلى إعادة توحيد الحالة الشعبية من خلال هيئات تنسيقية على مستوى الحي والجامعة والقرية والقطاع المهني، تعمل على وحدة النسيج المجتمعي من أجل إدامة الاشتباك وتحقيق الأهداف الوطنية.
(ورقة قدمت لورشة عمل حول عمليات المقاومة الفردية ضد الاحتلال الصهيوني، نظمتها جمعية الصداقة الفلسطينية ــ الإيرانية في دمشق ومركز اللغات والترجمة في حركة الجهاد الإسلامي، يوم الجمعة 27 شباط/ فبراير 2015)
* كاتب فلسطيني