لا تبتعد «غريقة بحيرة موريه» («الدار العربيّة للعلوم ــ ناشرون» و«دار المراد») لأنطوان الدويهي كثيراً عن سابقتها «حامل الوردة الأرجوانيّة» (2013). الروايتان اللتان وردتا في القائمة الطويلة لـ «بوكر» العربية هذه السنة وقبلها، تشتركان في الفضاءين المكاني والزماني، والشخصيات، وقضية تلاقي/ تنافر الشرق والغرب، ونمط السرد الكلاسيكي. هكذا، لن يجد القارئ صعوبة في متابعة أحداث هذه الرواية التي تبدو أشبه بـ «عالم موازٍ» لسابقتها؛ الهموم هي ذاتها، والمسرّات هي ذاتها، بل إنّ الشخصيات تبدو متماثلة إلى حدّ التطابق.
تتكئ هذه الرواية على قضية دراسة العلاقة بين زمنين: الماضي والحاضر، من زوايا ووجهات نظر متقاربة، وإن اختلفت في تفصيلٍ أو أكثر. ربما يمكن ردّ هذا التقارب إلى أنّ الراوي يكاد يتطابق مع الروائي، وبأنّ أفكار الرواية، برغم عمقها أحياناً، لا تعدو أن تكون وجهة نظر الكاتب الذي يحاول إقحامها على لسان الراوي الذي يُقحم، بدوره، أفكاره على لسان الشخصيات الأخرى. تبدو الرواية مثل منزل دمى قد يتراءى للقارئ بأنّه يمتلك حياته المستقلة، ولكنّ الكاتب يمد رأسه كلما اجتزنا صفحات عدة ليذكّرنا بأننا نجول في رأسه، وبأنّه محرّك الخيوط.

في «غريقة بحيرة موريه»، سنكون أمام خيارين: إما أنّ الكاتب تاه عن خيوط روايته وشخصياته فسادت الفوضى في كل مكان واختلط كلّ شيء، أو أننا أمام حالة واعية كان الكاتب فيها مدركاً بأنّه يخلق فوضى مدروسة، فنصبح حينذاك أمام موضة راجت أخيراً لتُبرّر ما لا يمكن تبريره، وتضفي شرعية على الهذيانات والفوضى المكتوبة باسم الفن. من خلال القراءة، سنبدو أقرب إلى الاحتمال الأول. جميع عناصر الرواية لا تبدو كما هي بذاتها في الحقيقة، بل أشبه بظلال للأشياء الفعلية، أو صورة لها في ذاكرة الروائي/الراوي. ويبدو مسرح المكان حلماً أو خيالاً، وابناً لذاكرة الكاتب وأحلامه. الغبَش يحتلّ كل شيء حتى اللغة التقليديّة الثقيلة التي كانت تكفي وحدها لإرباك السرد. أما المرأة هنا فليست أكثر من طيف لا يربطه بالواقع أي خيط، ما عدا تجارب الراوي الذي يتعامل مع كلّ ما حوله وكأنه حقل تجارب لأفكاره القطعيّة، حيث يدرس ما حوله من دون أن يعيشه، ومَنْ حوله من دون أن يقيم علاقة حقيقيّة معه. أما النساء اللواتي حاول الراوي إقناعنا بأنهنّ حبيبات، فهنّ لسن كذلك حقاً: إنهنّ «موضوع» للحب، أو لدراسة ماهيّة الحب دون الغوص في العلاقة بذاتها. ثمة هوّةٌ بين الحياة المتخيَّلة والحياة المعيشة فعلياً؛ تغرينا هذه الفكرة إلى اعتبارها لعبة روائيّة متقنة، ولكنّ باقي تفاصيل الرواية ستعيدنا إلى الاحتمال الأول: اللعبة التي أفلتت من يد صاحبها وتشظّت.

أن تكتب عن الفوضى دون أن تقع فيها؛ أن تُبيّن التعقيد دون أن يأسر نصّك؛ أن تدمج الفنون الأخرى والفلسفة في نصّك دون أن يصبح عسيراً على التلقّي. نجد جميع هذه «النصائح» في معظم الكتب النقديّة. ولكن، بعيداً من كل التحذيرات التي قد تصبح قيوداً بذاتها، سيبقى هناك هدف بسيط يتفق عليه الجميع: أنتجْ عملاً فنياً كما يحلو لك، دون أيّ اشتراطات أخرى، ولكن لا بدّ أن يبقى فناً في نهاية المطاف. هذه النقطة بالذات كانت غائبة عن رواية الدويهي التي ابتعدت من كونها رواية، لتصبح شيئاً آخر أخفق كاتبه، بدرجة كبيرة، في «المونتاج» الأخير له، فبدا بحاجة إلى تشذيب أكبر، ووطأة أقل.