جومانة، وثلاثة من أفراد عائلتها، لجأوا في أوقات مختلفة الى الطبيب نفسه للمعاينة الطبية. الفاتورة الدوائية لكل منهم بلغت نحو 200 ألف ليرة. وصف هذا الطبيب عدداً من الأدوية التجارية المرتفعة الثمن، فضلاً عن متممات غذائية وفيتامينات أصر الطبيب على أنها ضرورية للعلاج وتفادي العوارض المحتملة لتناول الأدوية.
اكتشفت جمانة أخيراً، من خلال وسائل الإعلام، وجود اتفاقات بين شركات الأدوية والأطباء، لذلك قامت بمراجعة الوصفات الطبية التي وضعها هذا الطبيب لها ولأفراد أسرتها، ليتبيّن أنه وصف في كل مرّة نحو 9 أدوية تجارية ومتممات غذائية وفيتامينات تسوّقها شركتان فقط، من بينها فيتامينات للمفاصل ومضاد للتأكسد ودواء حماية للمعدة وصفها للجميع بمعزل عن الحالة المرضية لكل منهم. استفز ذلك جومانة، فقررت أن تقارن الأسعار لدى الصيدلية بين أدوية مماثلة بماركات مختلفة، اكتشفت (مثلاً) أن سعر دواء حماية المعدة الذي يصفه هذا الطبيب يبلغ نحو 32 ألف ليرة، احتاجت جومانة الى علبتين منه لمدة شهر، أي 64 ألف ليرة، في حين أنه كان بمقدورها أن تتناول دواء آخر بالتركيبة نفسها والفعالية نفسها بسعر 14 ألف ليرة للعلبة الواحدة التي تكفي للجرعات المطلوبة لمدة شهر.
اتصلت جومانة بـ»الأخبار» لتعرض نتائج تجربتها، وتطرح السؤال الذي يشغل بالها: «ما الذي سيمنع هذا الطبيب (أو غيره)، بعد تطبيق الوصفة الطبية الموحدة، من وضع إشارة تمنع تبديل الأدوية على جميع الوصفات التي يصفها؟». تشير جومانة الى أن سؤالها ليس تشكيكاً بجدوى الوصفة الموحدة، بل نابع من الطبيب، الذي اتصلت به لاستيضاحه عن سبب وصفه لهذه الأدوية بالذات. استفاض بشرح مخاطر أدوية «الجينيريك» وعدم الثقة بالصيدليين، وبالتالي بدا أنه يمثل تياراً في مهنة الطب يرفض التسليم بأولوية مصالح المرضى على مصالح الأطباء النفعية، ولو بحجج ضمان صحّة المريض. وهذا برأي جومانة سيكون كافياً لتعطيل المفاعيل الإيجابية للوصفة العتيدة.

لن تتضمن الوصفة
رقماً تسلسلياً وخانة خاصة بقيمة أتعاب الطبيب

في الواقع، هناك مؤشرات كثيرة تدعم مخاوف جومانة، إذ أفضى تحرّك نقابة الأطباء في بيروت، مدعومة من شركات الأدوية، الى فرض تعديلات جوهرية على نموذج الوصفة الطبية الموحّدة الذي وضعته وزارة الصحّة. وبدلاً من الإجازة للصيدلي باستبدال دواء BRAND بآخر جينيريك، وهو ما ينص عليه قانون مزاولة مهنة الصيدلي، باتت التعديلات التي فرضتها نقابة الأطباء لا تجيز ذلك إلا للطبيب. وهذا ما أكّده بيان صادر أمس عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في أعقاب اجتماع، ضم المدير العام للصندوق محمد كركي ونقيب الأطباء في لبنان أنطوان البستاني وأمين السر العام للنقابة ماجد يزبك وعدداً من مديري الصندوق، إذ أكد المجتمعون، بحسب البيان، ضرورة السير بالوصفة الطبية الموحّدة بأسرع فرصة ممكنة ضمن مجموعة من الضوابط، أهمها «الدور الأساسي للطبيب الذي يجيز الاستبدال أو عدمه». وأعلن المجتمعون أنهم كلفوا التقنيين في الضمان وفي نقابة الأطباء بوضع التعديلات على نموذج الوصفة الطبية الموحّدة لتأخذ شكلها النهائي، وذلك بانتظار مصادقة وزير العمل على تعديل المادة 42 من النظام الطبي، التي أقرّها مجلس إدارة الضمان بتاريخ 26/2/2015، والتي أصبحت «تجيز للصيدلي استبدال دواء الـ BRAND بدواء جينيريك».
في مؤتمر صحافي سابق، جمع الأطراف المعنية بآليات تطبيق الوصفة الموحّدة، تحدّث وزير العمل سجعان قزي عن ضوابط عدّة تحكم تطبيق الوصفة، منها أن يعطى «القرار للطبيب بوضع مصطلح NS على الدواء الذي يمنع استبداله (...) ويحق للصيدلي أو للطبيب أن يصف دواء جنيريك شرط أن يكون مسجلاً ومعترفاً به من الضمان ومن منظمة الصحة العالمية»، وذكّر قزي بأن أي وصفة طبية «لا يوجد عليها أي علامة لا يحق للصيدلي عرض الدواء البديل على المريض». أمّا محمد كركي، المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فقال «إذا حسنت النوايا لدى الجميع، فسيكون هناك أمل بأن يحصل تخفيض في الكلفة بنسبة 30%»، إلا أن كركي لم ينكر قدرة كل طرف من الأطراف المعنية على «تعطيل الوصفة الطبية وجعلها حبراً على ورق». وكان نقيب الأطباء أنطوان البستاني الأوضح في تفسير التعديلات المطروحة، إذ أجاب عن سؤال يتعلّق بالمعايير التي ستفرض على الطبيب بالقول: «إن الطبيب يصف الدواء المقتنع به (...) وهو حر ساعة يشاء أن يضع إشارة الى أنه مسموح للصيدلي استبدال الدواء أو ممنوع الاستبدال».
الواضح أن الأطباء المعترضين على تطبيق الوصفة الطبية لم يتركوا باباً إلا طرقوه كي يجعلوا من الوصفة الموحدة لا تختلف بأي شيء عن الوصفة الفردية التي يعطيها الطبيب في العادة، سوى في الشكل. قالها صراحة بعض الأطباء خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد منذ فترة بحضور وزير العمل: «لن نجعل لهذه الوصفة أي قيمة، سنضع على جميع الوصفات الطبية NS، ولن نسمح للصيدلي باستبدال الدواء». هناك خوف غير معلن لدى الأطباء، يتعلق بالتصريح الضريبي لدى وزارة المال، يعد هذا التخوف أحد أهم أسباب عرقلة العمل بالوصفة الطبية. فهذه الوصفة، بصيغتها الأولية، تضمنت رقماً تسلسلياً وخانة يضع فيها الطبيب قيمة بدل المعاينة التي تقاضاها من المريض، وهذه الأرقام التسلسلية إذا ما قدمّت إلى وزارة المال تسمح لها بمعرفة المداخيل الفعلية التي يجنيها الطبيب، وبالتالي يُجبر على التصريح عن مداخيله بشكل فعلي، وليس عبر التصريح الوهمي الذي يقوم به الطبيب حالياً (الطبيب يصرّح عن قيمة أدنى بكثير من المداخيل الفعلية التي يجنيها). تلفت مصادر مواكبة للاجتماعات التي يتم فيها إجراء تعديلات على الوصفة، الى أن هناك توجّهاً لإزالة هذه الخانة من الوصفة كلها.
مسألة أخرى يتذرع بها الأطباء لإبقاء تحكّمهم بوصفة الأدوية. يقول الأطباء إن الصيدلي ليس موجوداً في صيدليته طوال الوقت، بل ينجز له أعماله مساعد، كل ما يعرفه هو إعطاء الدواء الوارد اسمه على الوصفة الطبية، وهذا ما أكّدته مصادر نقابة الصيادلة. وحده الصيدلاني يعرف أدوية الجينيرك التي تعطى بديلاً من الأدوية التجارية، والجهات المعنية من نقابة الصيادلة ووزارة الصحة تعترفان ضمناً بأن الرقابة على عمل الصيدليات معدومة، ولن يجد المواطن في أغلب الأحيان من يعطيه الدواء البديل.
... لذلك ستستمر اللعبة.