لم تكن كتابة المذكّرات من قبل المسؤولين العرب مألوفة، وهي باتت أندر عبر السنوات. عنصر الخوف هو الطاغي، كما ان أسرار الحكم باتت أكثر فضائحيّة للسلالات الحاكمة. لديها الكثير الكثير مما تخفيه، ولديها القليل القليل لما تريد ان تزهو به. كان هناك مذكّرات في الخمسينيات والستينيات، وكتب عنها المستشرق إيلي خدّوري. ومذكّرات خالد العظم بأجزائها أصبحت لازمة في الروايات الصهيونيّة لأن جملة واحدة وردت فيها عن دعوة حكومات العرب عام 1948 للشعب الفلسطيني لمغادرة أرضه، فقرّر الصهاينة ان هذه الجملة كافية كي تنفي عن دولة العدوّ الإسرائيلي تهمة تهجير شعب فلسطين بالقوّة (لم يعد الاستشهاد بالجملة سائداً بعد كشف الوثائق الصهيونيّة عن المرحلة، وخصوصاً بعد نشر كتاب المؤرّخ العنصري، بني موريس، والذي تضمّن وقائع عن عمليّات تهجير قسريّة - وجدها المؤرّخ ضروريّة ومعذورة).
أما وزراء الخارجيّة العرب، فمذكّراتهم تكون غالباً عديمة الفائدة لأنها تغمط أكثر مما تكشف. محمود رياض كان استثناء فيما كتبه لأن هذا الدبلوماسي العريق كان مُشاركاً في صناعة القرار، ولم يكن شاهداً فقط. كما أن تحليله الثاقب جعل من كتابه مرجعاً عن المرحلة تلك. أما في لبنان، فوحده كتاب عبدالله بو حبيب عن تجربته في العمل الدبلوماسي - على شناعة مهمّته آنذاك -كان ذا فائدة.
المُفيد في الكتاب أنه يدحض مزاعم عدّة في كتاب باتريك سيل عن الأسد

ومرحلة حكم حافظ الأسد خلت من المذكّرات باستثناء مذكّرات مصطفى طلاس، حامل عصا المارشاليّة، والدكتور في العلوم العسكريّة، والذي تقول سيرته الذاتيّة إن نظريّاته العسكريّة تُدرّس في الكليّات العسكريّة حول العالم (يعني خارج الرستن). وكتاب «مرآة حياتي» لطلاس (الذي كان يزهو أنه يزين نياشينه وميداليّته العسكريّة بالكيلو) يكفي ليصيب المرء بالاكتئاب. هذا كان وزير الدفاع لدولة «مواجهة» - نظريّاً على الأقل - وكان مولجاً بالدفاع عن سوريا وبتحرير الأرض السوريّة المحتلّة، والإسكندرون من بعدها. ولم تشغله مناصبه العسكريّة الرفيعة عن إصدار مؤلفّات عن الزهور وعن الجمال وعن الشعر، وعن «فطير صهيون» - والكتاب الأخير زاد من التبرّعات الصهيونيّة لدولة العدوّ بحجّة أن أعداءها يسوقّون لخزعبلات معاداة الساميّة الغربيّة. لكن هذا لا يعني ان ليس لمصطفى طلاس من مواهب. على العكس: هو كان يستحقّ أكثر من غيره في عصر الفضائيّات ان يدير برنامج سهرة فنيّة أسبوعيّة منوّعة بعنوان، مثلاً، «بعدنا مع مصطفى طلاس»، لأن مجاله هو فنّي محض، وليس عسكرياً أو دفاعياً. ولم يرد في كتاب طلاس أي جديد أو ما هو مفيد، إلا إذا كانت معلومة أن حافظ الأسد في شبابه كان ينطح برأسه في النزاعات (قال طلاس إنه استأذن الأسد قبل نشر المعلومة تلك). كان خبر نشر فاروق الشرع لمذكّراته مفاجئاً لأن لم يصرّح بذلك من قبل. لكن مضمونها كان مفاجئاً أيضاً. لم تترك إطلالات الشرع الإعلاميّة عبر السنوات انطباعاً إيجابيّاً: كان يظهر الواجم والعبوس، والفظّ بعض الشيء. لكن المذكّرات تظهره بمظهر مختلف: هو، خلافاً للسائد في المذكّرات العربيّة، ينبذ الأنا ولا يزهو أو يبالغ في إظهار دوره أبداً. على العكس، بدا الشرع في المذكّرات متواضعاً جداً ومتحفّظاً جداً، وبعيداً عن أجواء النميمة التي تشتهر بها السياسة العليا في سوريا ولبنان بصورة خاصّة. وللشرع مهارة لغويّة: الرجل الذي درس في سوريا وجامعتها أتقن الإنكليزيّة أفضل (بكثير) من بعض المسؤولين العرب الذين درسوا في جامعات الغرب. وكان واضحاً انه شغوف بالأدب واتى أسلوبه باللغة العربيّة جميلاً ومقتصداً وموجزاً ومشوّقاً وخالياً من التكلّف أو التبجّح. لكنه قصّر في أماكن أخرى بالرغم من موهبته الأدبيّة: لم يرسم لنا وصفاً مسهباً للشخصيّات التي عاصرها عن قرب أو عن بعد. كان يمرّ على كل الشخصيّات مروراً عابراً. لم يعط القارئ وصفاً للشخصيّة اللغز لحافظ الأسد. يروي فقط انه سأل مرة حافظ الأسد عن أصدقائه الحميمين فأجابه بعد برهة أنه واحد منهم، ممّا يوحي انه لم يكن له أصدقاء (بناء على وصف رسميّة العلاقة وحدودها المرسومة في الكتاب). هناك طبعاً مَن سيسأل عن مسؤوليّة الشرع عن قمع النظام قبل الحرب السوريّة وخلالها، وفي ذلك يتحمّل كل مسؤول في أي نظام قسطاً من المسؤوليّة تتفاوت بتفاوت المراتب والأدوار. الشرع، للإنصاف، لم يكن يتدخّل في الحرتقات الداخليّة للنظام - على علمنا - ولم يُعلم عنه التدخّل في العمل المخابراتي الإجرامي - مثل خدّام، مثلاً. على العكس، هو ابتعد بالكامل عن الملف اللبناني الفاسد والقذر، والذي تنعّم به خدّام وحكمت الشهابي وقادة المخابرات الذين توالوا، مع راعيهم رفيق الحريري. وخلافاً لطارق عزيز، مثلاً، لم يكن الشرع يلعب أي دور في السياسة الداخليّة السوريّة -على علمنا، ولم يكن يرغي ويزبد ضد المعارضين كما كان يفعل عزيز. الشرع أخذ حقل الدبلوماسيّة على محمل الجدّ، مع انه كان المُنفّذ أكثر ممّا كان صانع قرار، في نظام تسلّطي. لكن يتبيّن في الكتاب ان الأسد أكثر من الاعتماد على حُكمه وآرائه في المفاوضات السوريّة مع العدوّ الإسرائيلي في سنواته الأخيرة. لكن إبتعاد الشرع عن مركز القرار الداخلي لا يعفيه البتّة من المسؤوليّة بحكم تبوّئه لمنصب رفيع وتقلّبه في المناصب في سنوات النظام. لا يتحمّل مدير دائرة الأرصاد الجويّة المسؤوليّة عن أفعال نظام ما، لكن وزير الخارجيّة ونائب رئيس الجمهوريّة، وحتى السفير، يتحمّلون المسؤوليّة. لكن هذا للتاريخ وللشعب السوري يقرّر فيه ما يشاء، متى يُسمح للشعب السوري ان يقرّر.
لكن في الموضوع الأهم عن حافظ الأسد، لم يشف الشرع غليل القارئ. كان حنّا بطاطو دائم الاستفسار والسؤال عن عمليّة صنع القرار في النظام السوري، خصوصاً في تعاطي النظام مع مرحلة رونالد ريغان. كان دائماً يسأل كل من يراه: مَن يستشير حافظ الأسد؟ كيف يتابع عمليّة صنع القرار في الغرب، خصوصاً في أميركا؟ كيف كان يتوصّل إلى استنتاجاته في العلاقة مع الغرب؟ كيف كان يتلاعب بالحكومات الغربيّة بهذه المهارة الفائقة؟ ماذا كان يقرأ، ومَن كان يقدّم المشورة له؟ كان بطاطو مُعجباً بذكاء الأسد وبقدرته على المناورة في العلاقة مع الغرب، وفي بناء قوّة البلد الذي سيطر عليه بالقوّة المفرطة، ثم يضيف - دائماً: آه، لو أنه استعمل هذا العقل الفذّ لعمل الخير (يعني في السياسة). لكن بطاطو كان يضيف بالنسبة إلى تعاطي الأسد مع الغرب أنه كان أمهر في التعاطي من باقي الزعماء العرب، خصوصاً من عرفات. هذه الأسئلة البطاطويّة لم يجب عليها الشرع. ماذا كان يقرأ عن الغرب، ومَن كان يستشير؟ أخبرنا الشرع ان الأسد كان يقرأ كتب التاريخ، لكن أي كتب تاريخ؟ لم يُحدّد.
وهناك أسئلة أخرى سياسيّة لم يُجب الكتاب عنها. ما هي الممانعة، تحديداً؟ بدأ سرد السياسة السوريّة في عهد الشرع في التمسّك بالحل الشامل للصراع العربي -الإسرائيلي، وبرز رفض النظام السوري - على ذمّة الشرع - الحلول الفرديّة في التعاطي مع ملف «مسيرة السلام» - وهي حربيّة بمشيئة أميركيّة. كما ان الأسد اعتبر ان اتفاقيّة أوسلو هي - وعن حق - نموذج آخر، أو ترتيب متناسق مع، اتفاقيّة «كامب ديفيد». لكن يبدو ان النظام حزم أمره، بعد أوسلو، وقرّر ان يلتزم بالسلام الكامل والمنفرد - لا الشامل - مع العدوّ الإسرائيلي. ثم، كيف تحوّل النظام السوري من سياسة «التوازن الاستراتيجي» وبناء القدرات الذاتيّة لإعداد العدة للتحرير إلى سياسة «الجولان فقط مقابل السلام التام»؟ وكيف تحوّل النظام من الحل الشامل إلى الحل المنفرد الذي لا يختلف - إلا في الحرص على حدود 1967 - عن سياق اتفاقيّات الإذعان في وادي عربة وكامب ديفيد و17 أيّار وأوسلو؟ المحصّلة هي واحدة، أي احترام حقّ العدوّ في احتلال فلسطين وقبول فرض التطبيع مع العدوّ بالقوّة. وسير المفاوضات السوريّة ــ الإسرائيليّة التي شارك فيها الشرع، والتي روى تفاصيلها، خلت من الإشارة إلى فلسطين كما أنها خلت من الإشارة إلى احتلال جنوب لبنان في ذلك الحين.
والمُفيد في الكتاب انه يدحض مزاعم عدّة في كتاب باتريك سيل عن الأسد كما أنه ينال من مصداقيّته وهو الذي قرّر تسخير قلمه ومهارته في التأريخ لصالح النظام السوري والسعودي في آن. يؤكّد الشرع في الكتاب قصّة رفض حافظ الأسد توفير الغطاء الجوّي للقوّات السوريّة التي أراد صلاح جديد ورفاقه إدخالها إلى الأردن في عام 1970 لدعم قوّات المقاومة الفلسطينيّة (ص. 39)، وكان سيل في سيرته عن الأسد قد نفى ذلك. كما أن رواية الكاتب لتفاصيل الصراع بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت تتضارب مع الرواية البوليسيّة التي أوردها سيل أيضاً في سيرته عن الأسد. أكثر من ذلك، يقول الشرع ان مقالة نشرها سيل عن لسان الأسد في «الحياة» في 1993 والتي يرد فيها قبول الأسد لاختلاف التزامن بين المسارات التفاوضيّة العربيّة آنذاك، لم تكن دقيقة ولم تكن نقلاً عن الأسد، كما زعم سيل. يقول الشرع إن الأسد أخبره انه لم يقل ذلك لسيل لكنه لم يعترض كي يرى ردة الفعل عليها (ص. 281). أما قصّة إبعاد عرفات عن سوريا في عام 1983 فهي تنحو منحى آخر. لكن الشرع هنا يحمّل المسؤوليّة إلى خدّام وحكمت الشهابي (ص. 96). ومن السهل دائماً على النظام السوري تحميل مسؤوليّة الأخطاء والخطايا والفساد إلى كل مَن انشقّ عن النظام، من دون معرفة حقيقة دور خدّام، وكأن حافظ الأسد كان يكنّ كل الودّ والاحترام لعرفات. أما قصّة حركة رفعت الأسد فهي تحتاج الى مزيد من التوضيح كما انها ترسم علامات استفهام عن حقيقة السياسة الخارجيّة للنظام السوري. يربط الشرع بين الأسد وبين «الخط السعودي ــ الأميركي» (ص. 106) لكنه لا يقول لنا أين يقع الاختلاف بين النظام السوري وبين النظام السعودي، والشرع لم يكتب كلمة مُسيئة واحدة ضد النظام السعودي. لا، هو أثنى على الملك فهد وعلى مهارته في الدردشة. ويروي الشرع، ربما للمرّة الأولى، قصّة نزار الهنداوي، ويربط بطريقة مُقنعة بينه وبين «الموساد». طبعاً، لن تكترث لا الصحافة العربيّة ولا الصحافة الغربيّة بهذه السرديّة المهمّة لأنها ضد مصلحة الدعاية الصهيونيّة. لكن، هل هناك احتمال تورّط عنصر موسادي في المخابرات الجويّة السوريّة (يتحدّث الشرع فقط عن تورّط «أحد فروع الأمن السوريّة» (ص.139)). وقصّة لقاء الشرع بوزير خارجيّة عهد غورباتشوف، إدوار شيفارندزه (ص. 146) مهمّة للغاية لأنها قد تؤشّر إلى احتمال أن يكون آخر وزير سوفياتي يعمل لصالح الحكومة الأميركيّة (ومسار شيفارندزه اللاحق في جمهوريّة جورجيا يعزّز هذا الشك). ويتضمّن الكتاب وصفاً غير مألوف لدهاء علي خامنئي السياسي (ص. 161)، لكن الشرع، كعادته، لا يستفيض في بناء رسم للشخصيّات التي يلتقيها. لماذا يبدو الشرع وكأنه استعجل كتابة مذكّراته؟ وهناك إشارة إلى السيطرة السعوديّة المُبكّرة على الأخضر الإبراهيمي (ص. 184)، الذي لم يعلب دوراً في السياسة الدوليّة إلا بتوافق مع سياسة آل سعود (ومع اميركا). أما رواية الشرع عن الدور السوري في الحرب الأميركيّة على العراق في عام 1991، فتبقى ناقصة. لم ندرِ كيف وافق النظام صاحب الشعارات القوميّة (آنذاك، على الأقل) على المشاركة العسكريّة في حرب مدمّرة ضد بلد عربي، فيها هو كان يتريّث في عمليّة عسكريّة لتحرير الجولان المحتل. طبعاً، لا يورد الشرع أي خبر لمداولات بين الأسد وبين النظام السعودي على مستوى الملك أو ولي عهده آنذاك (أما جيمس بيكر، فينقل عن سعود الفيصل قوله في كتابه «اجتهد، وتعلّم، و... ابتعد عن السياسة» أن النظام السوري يمشي في المسار السعودي مقابل بضعة مليارات).
ويثبت الكتاب أن الدور السوري في لبنان (في عهد حافظ الأسد) كان منذ عام 1976 (باستثناء سنوات عهد ريغان) يحظى بتغطية وتأييد مباشر من الإدارة الأميركيّة. طلب بوش من الأسد فقط ان يُسمح لميشال عون بمغادرة لبنان إلى فرنسا (ص. 218). وينقل الشرع عن جيمس بيكر قوله إنه يصطحب دنيس روس معه في المفاوضات العربيّة ــ الإسرائيليّة فقط من أجل معرفة «الخطوط الحمر بالنسبة إلى إسرائيل» (ص. 240). أما الحكومات العربيّة، فلم تكن تعترف بخطوط حمر في مفاوضاتها المباشرة أو غير المباشرة مع العدوّ الإسرائيلي.
أما قصّة «وديعة رابين» فهي بالفعل قصّة مضحكة وتظهر سذاجة المفاوضين العرب، وسرعة انخداعهم بوعود أميركيّة باطلة. كيف يمكن في مفاوضات مع عدوّ تاريخي الركون إلى «وعد» أو «وديعة» خارج إطار الورقة الرسميّة المُوقّعة بوجود شاهد أميركي رسمي؟ هل يجهل المفاوض العربي التاريخ العريق للعدوّ في الكذب والخداع والمرواغة والرياء؟ ثم، هل قرأ المفاوضون العرب عن تفاصيل الوعود الأميركيّة الرسميّة التي كان العدوّ الإسرائيلي يطلبها، وكيف تكون في شكل قوانين واتفاقيّات أو رسائل رسميّة موقّعة، سريّة أم علنيّة؟ هل فات حافظ الأسد ان يقول لدنيس روس ان أي وعود خارج إطار الاتفاقيّات والأوراق المُوقّعة لا قيمة لها (وهذا بالفعل ما فعله الأميركيّون في عهد كلينتون إذ أن وارن كريستوفر أكّد في رسالة رسميّة - وليس «وديعة في الجيب»، وهي أقل قيمة من عصفور على شجرة - لبنيامين نتنياهو في 19 أيلول 1996 أن أي وعود كانت إسرائيل قد أعطتها في خضم مفاوضات سابقة تُعتبر لاغية لأن لا قيمة قانونيّة لها). كيف فات الحكومة السوريّة ذلك؟ وهل هذا يعود إلى الحماسة الزائدة التي خاض فيه النظام المفاوضات مع العدوّ آنذاك؟ لا يترك الكتاب شكّاً أن حافظ الأسد كان يعقد نيّة جديّة واستراتيجيّة لتحقيق السلام (المُنفرد) مع العدوّ الإسرائيلي. والمفارقة ان حافظ الأسد (حسب سرد الكتاب) كان دقيقاً وصائباً في نقده لاتفاقيّة أسلو (أن كل بند فيها يحتاج إلى «مفاوضات جديدة واتفاق جديد» (ص. 291)). لماذا جمّد حسّه النقدي في التعاطي مع الإدارات الأميركيّة في مفاوضات التسعينيات؟ ثم هناك مسألة الاهتمام العربي الرسمي بالشكليّات الفارغة التي ظهرت مرّة واحدة، وبصورة فاقعة، في هذه الرواية. يروي الشرع: «وكانت دهشتي كبيرة أن أرى الرئيس كلينتون يرحّب بي بحرارة عند باب السيّارة وليس عندما أصل إلى باب الصالة. كانت هذه إيماءة في غاية اللطف من قبل الرئيس» (ص. 429). لكن، ماذا تعني هذه الخطوة الفارغة؟ وكم قرّبت سوريا من تحرير الجولان؟ ولماذا تترك هذه الإيماءات الفارغة، التي تهدف إلى خداع العرب وإلى استمالتهم للموقف الأميركي، بالغ الأثر عند المفاوض العربي؟ كان كلينتون مستعداً ان يحمل الشرع على ظهره ويدور به في ساحات واشنطن لو أن سوريا وافقت على التنازل عن أراض في الجولان. على المفاوض العربي ان يدرك ان الشكليّات لا تؤثّر في مسار ومضمون ونتائج المفاوضات، وان المفاوض الإسرائيلي يركّز - عكساً - على المضمون والمسار والفحوى، لا على المجاملات الفارغة. محمود عبّاس، وهو من أسوأ من فاوض في التاريخ العربي والبشري، يذكر في روايته عن أوسلو ان هنري كيسنجر، قدّم له كرسيّه عندما همّ بالجلوس، يا لفخر شعب فلسطين بذلك. تقرأ ذلك وتفهم لماذا كان المفاوض الإسرائيلي يخدع أمثال عبّاس، فيما يغرقه بالشكليّات (وحتى بالإهانات، لا فرق. يذكر الكاتب هنا ان جيمس بيكر أغلق الهاتف بوجه حنان عشراوي، ولم تعترض الأخيرة. (ص. 254)). أما المفاوض الإسرائيلي فلا يكترث للشكليّات. روى جيمي كارتر كيف أنه اصطحب مرّة مناحيم بيغن إلى الطابق العلوي الخاص في البيت الأبيض، حيث تقيم عائلة الرئيس الأميركي، وأراد في لفتة خاصّة ان يعرّفه إلى طفلته (آنذاك) إيمي. لكن بيغن لم يكترث وغادر الغرفة من دون تسجيل مجاملة. ولما يجامل بيغن وهو يحصل على ما يريد؟ أكثر من ذلك، يبدر عن رواية الشرع ان حافظ الأسد والشرع نفسه احتفظا بودّ ومحبّة لبيل كلينتون حتى آخر لحظة، وأقنعا نفسيهما أن كلينتون المسكين مغلوب على أمره وأن اللوبي قوي و»ما في اليد حيلة». لكن كلينتون كذب عليهما، عندما وعد الأسد انه لن يلومه لو فشلت مفاوضات جنيف، ولكنه عاد ولام الأسد، كما فعل من مفاوضات كامب ديفيد مع ياسر عرفات عندما وعده أنه لم يلومه لو فشلت المفاوضات، لكنه عاد ولامه أكثر من مرّة.
لن تكتمل القصّة بهذه الرواية، على أهميّتها وبراعة كاتبها روائيّاً. نحتاج إلى روايات. هناك الكثير من السير والمذكّرات المنشورة عن مسير المفاوضات بين العرب وبين العدوّ الإسرائيلي. لكن الروايات العربيّة لا تعتمد على الوثائق الرسميّة السريّة. السرّي يبقى سراً بسبب الفارق الكبير بين المُعلن وبين المكنون، بين العلني وبين السرّي، بين البيانات والأحاديث الجانبيّة. يُذكر ان الحقبة الناصريّة أنتجت عدداً كبيراً من الكتب والمذكّرات. أعتقد ان ذلك يعود لسبب غياب التآمر السرّي ولأن الهوّة بين المُعلن والمُضمر لم تكن كبيرة. للأنظمة العربيّة (الممانعة وغير المُمانعة) الكثير ممّا تخفيه. علينا ان ننتظر. لعل داء «ويكيليكس» يصيب العالم العربي ذات يوم.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)

ملاحظة

تصحيحاً لما ورد في مقالة الأسبوع الماضي، إن الكاتب الفرنسي الذي درس «إسلام الضواحي» هو جيل كيبيل لا أوليفي روا.