مع إعلان ساعة الصفر من قبل رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي من مدينة سامراء في الأول من آذار/ مارس الجاري، وبدء العمليات العسكرية التمهيدية، قالت مصادر عدة إن اسم العملية هو «ثأر شهداء سبايكر» غير أن جهات حكومية أعلنت بعد وقت قصير أن اسمها الصحيح هو «لبيك يا رسول الله». إن هذا الخلاف في التسمية، والذي قد يبدو صغيراً للبعض، ينطوي على دلالة مهمة تقول لنا إنّ أجواء هذا العمل العسكري الكبير يعكس المضامين والمنطلقات ذاتها التي يقوم عليها نظام الحكم القائم في عراق ما بعد 2003، وهي مضامين لا تخرج عن إطار الطابع المكوناتي الطائفي الديني والذي تهيمن فيه الأحزاب الإسلامية الشيعية، إضافة إلى الطابع العشائري الآخذ بالتقاليد الثأرية، وهي ستكون متأثرة به على مستوى النتائج والآفاق المستقبلية.
يمكن أيضاً أن نتلمس في اختيار الاسم الثاني للعملية محاولة حكومية فحواها توافقي أو تصالحي ضمن المنطق الطائفي ذاته يحاول إبراز ما يجمع الطائفتين الكبيرتين في البلاد من خلال اختيار اسم لا يختلف عليه السنة والشيعة والقفز على الطوائف الأخرى، ورغم حسن النوايا الظاهرة في هذا المسعى إن صح احتمال وجوده فهو لا ينفي بل يؤكد ما قلناه حول المنطق السلبي العام الذي يحكم حركة نظام المحاصصة.
متى كانت دماء العراقيين
أو غيرهم تؤخذ في حساب العسكرية الأميركية؟

هذه العملية العسكرية الضخمة، كما هو معلن، تستهدف تطهير ما تبقى تحت سيطرة مسلحي تنظيم «الدولة» في محافظة صلاح الدين المهمة والمحاذية لبغداد، وكان من أبرز ما توقف عنده المراقبون والمحللون فيها أنها تجرى من دون دعم مباشر من طيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، فالمصادر الأميركية أعلنت أنها لم تتلقَ طلباً بالدعم الجوي من الحكومة العراقية في حين قالت الأخيرة على لسان وزير دفاعها لدى استقباله لوزير الدفاع التركي الذي جاء داعماً إنها تريد أن تكون هذه العملية عراقية تخطيطاً وتسليحاً وتنفيذاً مئة في المئة. مصادر إعلامية مستقلة نقلت عن مسؤول محلي في محافظة صلاح الدين قوله إن الولايات المتحدة اشترطت إبعاد قوات الحشد الشعبي - وهي قوات مدنية مسلحة من متطوعين لبوا نداء المرجعية الدينية الشيعية لمساندة الجيش بعد سقوط الموصل – عن ساحة المعركة، وهذا شرط رفضه رئيس الحكومة وأركانها وقرروا خوض المعركة من دون دعم أميركي وبقوات بلغ عديدها القتالي أكثر من ثلاثين ألف مقاتل، ثلثهم من الجيش والشرطة، والثلثان الآخران من قوات الحشد الشعبي والعشائر العربية السنية الرافضة لداعش. فما دلالات هذا الشرط الأميركي ورفضه الحكومي العراقي؟
إن التفسير السريع والذي فُسر به الشرط الأميركي، والذي يعلل هذا الرفض بتركيبة قوات الحشد المجتمعية وكونه من «الشيعة» وبالدعم الإيراني المباشر لها، ينطوي على الكثير من الاستعجال ولكنه لا يخلو من بعض الصحة فهو لا يعني أن الولايات المتحدة ضد وجود قوات مسلحة مؤلفة من طوائف محددة وهي التي أسست نظام حكم المحاصصة الطائفية وجهدت بكل الطرق لترسيخه ودوامه، ولكنها كانت تريد مقابلاً طائفياً من الطائفة الأخرى لهذه القوات شبيهاً بها وبقوات البيشمركة الكردية من حيث المحتوى الاجتماعي والسياسي. وقد اقترحت الإدارة الأميركية فعلاً تشكيل كيان عسكري يحمل اسم «الحرس الوطني» ولكن مقترحها هذا سار سيراً متعثراً حتى الآن وفي اتجاه آخر.
ثمة سبب آخر قد يسهم في تفسير هذا الشرط ورفضه هو أن قوات «الحشد»، قبل وبعد قرار مقتدى الصدر بتجميد وسحب قواته «سرايا السلام» منها والمعارك على أشدها، كررت اتهاماتها للطيران الأميركي بإلقاء المساعدات العسكرية على مواقع لداعش؛ وكان رئيس الوزراء نفسه قد نفى هذه الاتهامات وانتقد بشدة إطلاق النار من قبل قوات الحشد على طائرة «أباتشي» أميركية في منطقة «الحبانية» قبل بضعة أيام. وهذا يعني أن القيادة العسكرية الأميركية أمست تخشى فعلاً من رد فعل عملي من قوات «الحشد» ضد طيرانها وعسكرييها فوضعت هذا الشرط، وهو ما تحاول الحكومة الآن استثماره دعائياً وإثبات أن الدعم الجوي الأميركي والدولي ليس إلا صفراً على الشمال من الناحية العسكرية وهو كذلك من الناحية العملية.
أما التفسيرات الذاهبة إلى أن واشنطن تتحفظ وترفض تصرفات قوات «الحشد» ضد مواطني تلك المناطق من العرب السنة بعد تحريرها فهي - رغم ثبوت وجود ممارسات مدانة كثيرة كهذه، اعترفت بها بعض قيادات «الحشد» ونسبتها لقوى وعناصر ضالة أو مشبوهة اخترقت صفوفه، وهذا تبرير جزئي ومضلل لتلك الممارسات يضع أصحابها اللوم على الثمار وليس على الجذور، جذور النظام السياسي المحاصصاتي القائم – نقول، إن هذه التفسيرات الأميركية لا يُعتد بها تماماً، فالثابت من خلال تجربة العراقيين مع الولايات المتحدة وقواتها العسكرية أن آخر ما يعنيها هو سلامة العراقيين وإزالة التعديات ذات الطابع الطائفي، ثم متى كانت دماء العراقيين أو غيرهم تؤخذ في حساب العسكرية الأميركية الوالغة في دماء الشعوب؟
كما يمكن أن نتلمس دلالات إضافة إلى عدم حماسة الحكومة العراقية للحصول على هذا الدعم في تكرار مسؤولين كبار فيها، من بينهم العبادي نفسه، والذي قال حرفياً إنهم يريدون لعملية تكريت أن تكون مختلفة في النتائج (عن معركة كوباني/ عين العرب التي ساواها الطيران الأميركي والدولي بالأرض وعدم إلحاق الأذى بالمدنيين) عبر عمليات الأرض المحروقة والقصف السجادي التي لطالما اعتمدها الجيش الأميركي قديماً وحديثاً في العراق وغيره، والمرجح أن يكون العبادي ومن معه يدركون ثمن الانتصار الباهظ في معركة كهذه إذا خيضت بالطرق «الأميركية» التقليدية.
على صعيد الوزن العسكري للقوتين المتواجهتين، وإذا ما علمنا أن بعض التقديرات لعديد قوات مسلحي تنظيم «الدولة» تذهب إلى أنهم قد لا يزيدون على ألفي مقاتل في تكريت، في مواجهة أكثر من ثلاثين ألفاً من القوات الحكومية ومسانديها، فسنكون أمام فرق كبير في الأعداد والمعدات بين القوتين المتحاربتين، ولكن هذا الفرق، كما يفسر المحللون العسكريون، طبيعي جداً في هذا النوع من المعارك لأسباب عدة منها:
إن القوات الحكومية المشتركة فعلاً في عمليات التقدم والاقتحام في مواجهة مسلحي تنظيم «الدولة» لا تتجاوز بضعة آلاف مقاتل، أما غالبية القوات الأخرى فستكون مهمتها مسك الأرض وتطهيرها من الألغام والعبوات الناسفة والتمهيد لإعادة النازحين إلى ديارهم وهم بمئات الآلاف، وعدم تكرار ما كان يحدث سابقاً من عمليات تطهير واستيلاء سريعة يتلوها انسحاب وهكذا. وثانياً، فالتنظيم التكفيري يخوض حرب عصابات انتحارية تقوم على تكتيكات دفاعية تعتمد التفخيخ الشامل والهجمات الدفاعية الانتحارية والقنص الكثيف، وهذه التكتيكات التي أثبتت جدواها وفعاليتها تستلزم عديداً كبيراً في القوات المهاجمة. عامل آخر ومهم يفسر لنا هذا الفارق بين القوتين هو اتساع رقعة ميدان المعركة الرئيسية والذي قدره بعض المحللين بخمسين كليومتراً طولاً، وخمسة وعشرين كيلومتراً عرضاً، أي ما يساوي تقريباً ألفاً ومئتين وخمسين كيلو متراً مربعاً، وهذه مساحة هائلة وذات تضاريس متنوعة وصعبة عرفت بها محافظة صلاح الدين تستلزم عديداً كبيراً وغطاء جوياً كثيفاً أيضاً.
على الأرض جاءت النتائج الرقمية المعلنة لهذه العملية جيدة ومتفائلة من وجهة نظر الحكومة التي أعلنت يوم أمس أن أكثر 97 قضاء وناحية وقرية وحياً تم تطهيرها، أتبعتها اليوم بأخبار أكدت فيها تحرير أكثر من سبع مناطق في المحافظة. غير أن طابع البطء في التنفيذ لا يمكن إنكاره وأن العملية ككل ستستغرق وقتاً أطول، رغم التصريحات الحكومية التي قالت بأن التنفيذ كان أسرع مما خطط له في اليومين الثاني والثالث، أما اليوم فيبدو أن التوقعات بدأت تميل إلى «الواقعية» وهو ما صرح به النائب عن دولة القانون والمستشار الأمني السابق لحاكم العراق بول بريمر موفق الربيعي، الذي قال إن العمليات ستستغرق وقتاً أطول، متناغماً بذلك مع ما قاله مسؤولون وصحف أميركية لا يبدو أنها متحمسة لرؤية انتصار عراقي بعيد عنها.
غير أن وجهات النظر الأقل تفاؤلاً هذه ليست خالية من المضمون تماماً، فالأكيد هو أن ثمن الانتصار على مسلحي «داعش» دون تدمير المدن على الطريقة الأميركية سيكون باهظاً وشاقاً وسيستغرق وقتاً أطول وقد يتحول إلى حرب استنزاف طويلة كما تنبأت صحيفة «واشنطن بوست»، أما الحكومة العراقية أو للدقة نظام الحكم ككل فقد راهن على تحقيق نصر حاسم وسريع ووضع ثقله كله في هذا الاتجاه. ويبدو أن أقطاب النظام مقتنعون بتحقيق نصر ما بعد حشد كل هذه العدة والعتاد واستثمروا الأجواء السياسية والنفسية السائدة في العراق والإقليم والعالم بعد سلسلة جرائم تنظيم «الدولة» خلال الأشهر الماضية.
إن من الممكن والمرجح انتهاء معركة تكريت بهزيمة «داعش» في مدى زمني متوسط، ولكن بحصيلة أثقل من الخسائر في صفوف القوات الحكومية والمساندة لها، غير أن نهاية هذه المعركة لن تكون نهاية الحرب ضد التمرد التكفيري المسلح إنما قد تكون بداية هذه النهاية.
إن نظام الحكم في العراق ليس مؤهلاً لهزيمة هذا التمرد المسلح الرجعي ذي السمات الفاشية بشكل تام ونهائي، ولا هو جدير به. وهو حتى لو كسب هذه المعركة فلن يفعل سوى أن يطيل أيامه قليلاً ولكنه لن يصلح ما أفسده وتسبب به من مصائب وويلات للعراقيين على جميع الصُعد، غير أن هذا الموقف النقدي من نظام الحكم المحاصصاتي لا ينبغي أن تترتب عليه مواقف معارضة أو متحفظة على العملية العسكرية التي تستهدف القضاء على التمرد التكفيري المسلح وتطهير المدن والمناطق التي يسيطر عليها وإنقاذ أهلها من شروره، فثمة مساحة ينبغي أن تستعمل بحذر وانتباه من قبل القوى والعناصر الديموقراطية واليسارية العراقية على هشاشتها وتشرذمها، وتقع تلك المساحة بين خط معارضة نظام حكم المحاصصة الطائفية وبين التأييد الواعي والمتحفظ للمؤسسة الأمنية العراقية الساعية لهزيمة هذا التمرد ومشروعه الظلامي، السياسي والاجتماعي.
* كاتب عراقي