لا يمكنك، وأنت تستمع الى سلسلة الخطابات والمواقف العنيفة لسياسيينا، تسيل من الأفواه والأقلام والجيوب، تأييداً لما يسمونه «الثورات» العربية وتحقيقاً للديموقراطية التي يعشقونها إحشائياً ويلتزمونها جينياً، إلا أن تتراءى أمام عينيك مسارات أصحاب تلك الخطابات وحقائق ماضيهم وواقعهم ومستقبلهم الوحيد. تستعرض أسماءهم وصفاتهم والسير الشخصية، تأكيداً لترسلهم الثوري الديموقراطي الأرسطوطاليسي. فتجد بدايةً ذاك الزعيم الرحالة منفياً ذاتياً في أصقاع الدنيا. قست عليه الأيام حتى صار نزيل أقبية فنادق أوروبا، أو ناسك «صوامع» القصور المملوكة في الكروازيت وسردينيا وأخواتها. ديموقراطيته لا شك فيها ولا لبس. أصيلة هي في ذاته العميقة، عميقة غير قابلة للتصرف، كما مفهوم إعلان قصر شايو لحقوق الإنسان. متجذرة في شخصه مثل الورق. الورق نفسه الذي صنع كل كيانه: ورق إخراج القيد العائلي الذي جعل منه وريثاً، وورق دفتر الشيكات الذي يكرّسه زعيماً، وورق الفرمان الملكي الذي يثبته ولو «مقوطباً»، حتى على «ولي العهد البكر». ديموقراطيته لا تقبل بالماضي ولا بالحاضر، ما جعله ينكبّ على صناعة ما سيأتي، حتى عمَّد تياره باسم يوحي بذلك: تيار الآتي لصاحبه أنا وإخواني.
في الجهة الأخرى، صوت لا ينفك يدعم ثوار العرب وديموقراطييهم، يدعوهم ليل نهار الى التكنه به، الى التماثل بنهجه والتماهي مع ثورته وديموقراطيته. على عكس حليفه السابق ذكره، لم يأت من الورق، بل من الأرض. من كل أرض وطئها وغادرها الى غير رجعة. زعيم لا يقل ديموقراطية وثورية حمراوين. يحق له أن ينصح دمشق بالحرية التي يأكل ويشرب، وخصوصاً إذا كان بابها من النوع الذي «بكل يد مضرجة بالدم يدق». بعد نضاله الطويل، أسس حزباً نموذجياً في الديموقراطية، يتقاسمه مع «نصفه الجميل». خلال مناقشات وضع نظامه الداخلي، قيل إن أحد حكماء جماعته ذهب إليه ليقنعه بأن الشرط الأساسي لأي ديموقراطية حزبية هو أن يكون ثمة سقفٌ لولايات رئيس الحزب. فرفض. أصر الرفيق القديم. حاول تقريب المسألة من حساباته الرقمية. قال له: فلينص النظام على أنه يمكن لرئيس الحزب أن يجدد ولايته عشر مرات. كان الرفيق يحسب على ما بقي من أصابع مكلومة من كتابات «القضية»: هذا يعني بقاءك رئيساً للحزب ثلاثين سنة، وأنت تختم الآن العقد السادس من عمرك. رفض أيضاً. ذهب معه في البازار الديموقراطي الحداثوي: طيب خمس عشرة ولاية...عشرون ولاية؟ فأصر «غيفارا» على موقفه، حتى صدر نظام الحزب النموذجي بلا سقف ولا باب ولا نوافذ. فيما الرفاق حائرون يتساءلون عن مصير ممتلكات الحزب. حتى إن العارفين منهم يجزمون بأن مقر قيادتهم القلاعي العظيم، مسجل قانوناً باسم أحد أنسباء زوجة القائد الديموقراطي الملهِم لديموقراطيات لبنان وسائر المشرق...
زعيم ثالث لا يطيق دكتاتوريات المحيط، يتنفس الديموقراطية مثل «قفشات» تصاريحه العفوية، لم يعد يوزع صورة لاجتماع قيادته الحزبية الديموقراطية منذ أعوام طويلة. مع أن كثيرين يجدونه «فوتوجينيك». غير أن عدد محازبيه بات أقل من عدد كراسي المقر الذي بات آخر ما ورثه عن والده. يقول رفاقه إن الباقي ذهب مجهوداً حربياً في الأيام السود، قبل أن يطل زمن ثورة الأرز والنفط والغاز، فيصمد «البيت» الأخير من مشروع بيع كان محتوماً وتفليسة كاملة.
زعيم رابع يدأب بلغة ضاد لا تزال تعرج منذ عشرة أعوام قضاها في هذا البلد ـــــ المحطة، على إعطاء دروس «ماجيسترالية» في الديموقراطية. علماً أن مفتاح بيت حزبه لا يفارق جيبه. يذهب معه الى آخر أميركا الجنوبية، ويعود معه، لا ينقصه شيء من هيئات التواصل الحزبي وحلقات النقاش والتفاعل وأطر التواصل مع القاعدة العريضة والرأس المستدق. مع أنه ،للأمانة، لا يدَّعي ولا يكابر. فهو يعرف ويعترف بأن كل ما زجّه في هذا العالم الغريب عنه، هو أنه صودف وجوده في تلك الكاتدرائية العريقة للمشاركة في دفن نسيبه الكبير الراحل...
طبعاً، وفوراً، يجب التأكيد على أن الوضع في الجهة المقابلة ليس في أفضل حال، ولا حتى في حال أفضل. فالعدل الوحيد في رعيتنا هو في هذا الظلم السوي في تخلفنا وبداءتنا. فبمعزل عن أي أحكام مسبقة أو اصطفافات، هي السوسيولوجيا ما يجزم بأن الفرد هو مجتمع صغير، تماماً كما المجتمع فرد كبير. وما يصح على واحدهما منطبق بالتمام على الآخر. لا يمكن لديموقراطية على مستوى دولة أن تنبثق من تشكيلات سياسية وحزبية لم تعرف منافسة انتخابية واحدة في تاريخها داخل حزب أو تيار أو عائلة أو «بيت». ما يبقى لعبة مصالح معروفة ومكشوفة، فلا تمرغوا مقولات «القيم» في وحولها. فالديموقراطية تقتضي ديموقراطيين، والثورة ثواراً، أما في حالاتنا، فليست غير مؤنث الثور.