في أيار عام ٢٠١٤ موّل الاتحاد الأوروبي برنامج «دعم الإصلاحات - الحوكمة البيئية» عبر هبة تبلغ قيمتها ثمانية ملايين يورو بإدارة رئاسة مجلس الوزراء. تشمل أنشطة هذا البرنامج مجموعة من الملفات التي تعمل عليها وزارة البيئة، وبينها ملف إدارة النفايات المنزلية الصلبة. وفي خضم انشغال الحكومة اللبنانية بإقرار خطة جديدة للنفايات شعارها كسر احتكار سوكلين وإعادة توزيع المناطق الخدماتية بما يناسب المحاصصة السياسية والطائفية لصناع القرار، ولأن الأموال باتت موجودة ولا بد من صرفها، كلفت الحكومة اللبنانية وزارة البيئة إعداد «دراسة حول التقييم الاستراتيجي للأثر البيئي للاستراتيجية الوطنية لإدارة النفايات الصلبة».
يشترط الاتحاد الأوروبي صرفَ الهبات التي يقدمها من خلال تلزيم تنفيذها لشركات أوروبية، لذلك إن هبة الثمانية ملايين يورو سينفذها فريق عمل فني من شركات أوروبية عدة بقيادة مجموعة ج.ف.أ. الاستشارية الألمانية، وبالاشتراك مع شركة Umweltbundesamt UBA النمسوية وشركة Euro consult الاستشارية الأوروبية وشركة Mott MacDonald الاستشارية البريطانية.
كيف لدراسة أن تقوم بتقييم خطة استراتيجية لا تحدد فيها تقنيات إدارة النفايات؟

شحذ الخبراء «الفرنجة» أقلامهم، وبدأوا بتجميع المعلومات المتعلقة بإدارة النفايات المنزلية الصلبة في مختلف المناطق اللبنانية، وبالاقتراحات والخطط المطروحة للنقاش من قبل وزارة البيئة والجمعيات الأهلية ومجلس الإنماء والإعمار ووزارة التنمية الإدارية. وفي وقت كان يجري فيه الخبراء الأوروبيون اجتماعات تشاورية مع الإدارات الرسمية والبلديات والجمعيات الأهلية، كانت الحكومة اللبنانية قد حسمت خيارها بإقرار خطة للنفايات تقوم على مبدأ تسليم إدارة النفايات للمتعهدين من القطاع الخاص الذي طلب منهم تحديد المواقع والخيارات التقنية التي تناسبهم في المناطق الخدماتية التي أُطلقت فيها المناقصات (بيروت وجبل لبنان). هذا يعني أن «التقييم الاستراتيجي» الذي كلفت الشركات الأوروبية القيام به بات «لزوم ما لا يلزم»، لكن وزارة البيئة أصرت على استكمال العمل بالبرنامج. وبالفعل، باشرت الوزارة، بالتعاون مع فريق من الخبراء الأوروبيين، تنظيم سلسلة من اللقاءات، تعرض فيها المسودة الأولية للدراسة التي أعدتها. وفي هذا السياق، قررت الوزارة تنظيم ثلاثة لقاءات، ينعقد اللقاء الأول مع سائر الإدارات العامة والوزارات المعنية بشأن النفايات الصلبة. أما اللقاء الثاني، فسوف ينعقد مع ممثلين عن البلديات. ويخصص اللقاء الثالث لممثلين عن المجتمع المدني وخبراء معنيين بهذا الشأن، وذلك تحضيراً لمؤتمر وطني ينعقد في مرحلة لاحقة لإطلاق الدراسة.
ولأن التشاور مع المجتمع المدني، هو المهمة الأصعب بالنسبة إلى الوزارة، قرر الفريق المكلف إدارة البرنامج، أن يتعاون مع شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية لدعوة الجمعيات والائتلافات الأهلية المهتمة بملف النفايات، وأبرزها الحركة البيئية اللبنانية، وحملة صفر نفايات، وحملة إقفال مطمر الناعمة، والائتلاف المدني ضد سياسة الحكومة لمعالجة النفايات المنزلية الصلبة، والتجمع اللبناني لحماية البيئة.
اللقاء الذي كان مقرراً عقده أمس، ووجه بمقاطعة واسعة من مختلف الجمعيات المدعوة، ما دفع المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، زياد عبد الصمد، إلى توجيه رسالة إلى المدعوين أعلن فيها أنه «حاول أن يُسهم في معالجة معضلة تتداخل فيها المصالح وتتعارض أحياناً كثيرة مع بعض المواقف المبدئية، لكن على ما يبدو، فإن عناصر الحوار لم تكتمل بعد، وهو ما دفعني إلى إبلاغ الوزارة بقراري إلغاء الاجتماع وانسحابي من المبادرة كلياً، فأنا متأكد من أن الجمعيات وتحالفاتها ستتمكن من إيجاد الوسيلة الأفضل لإدارة الحوار، وأنا أثق بأن الوزارة ستتمكن من إيجاد الشخص المناسب لإدارة العلاقة مع المجتمع المدني بشكل أفضل».
تتفاوت أسباب المقاطعة بالنسبة إلى الجمعيات المدعوة، فبالنسبة إلى منسقة حملة صفر نفايات فيفي كلاب، كان التأخر في إرسال مسودة الدراسة ووصولها قبل ثماني ساعات من عقد اللقاء، السبب المباشر للمقاطعة. منسق «الائتلاف المدني ضد سياسة الحكومة لمعالجة النفايات المنزلية»، رجا نجيم، أكد أن السبب الرئيسي للمقاطعة، هو مضمون مستند السناريوهات، كما تحريف وزارة البيئة لاقتراحنا كمجتمع مدني متخصّص وحتى عدم احترامها لنا. وأضاف نجيم: «بالرغم من قرار إلغاء االلقاء الذي أعلنه عبد الصمد، فإن وزارة البيئة لم تُلغِ اللقاء وبقي ممثلوها مع بعض الخبراء الأوروبيين في الصالة منذ العاشرة حتى ما بعد العاشرة والنصف صباحاً...! وذلك يدلّ بكل وضوح على العقلية السائدة في هذه الإدارة الرسميّة».
يؤكد د. ناجي قديح أن جمعيات المجتمع المدني تطالب بأن تعتمد الحكومة خطّة مُفصّلة، شاملة، كاملة مُتوازنة، عادلة ومُستدامة، يجري تحضيرها بطريقة مهنيّة صحيحة. ويبدأ لعب دور الدولة الحقيقيّة بإلغاء قرار مجلس الوزراء رقم 1 /12-1-2015 والقرار رقم 46 /30-10-2014. وإن أي حديث عن سيناريوات وخطط قبل إلغاء القرارين هو كلام عبثي.
يقدم قديح قراءة نقدية أولية للدراسة التي أعدتها مجموعة ج.ف.أ. الاستشارية الألمانية، ويعيب على الدراسة أنها لا تناقش مشروع خطة استراتيجية لإدارة النفايات الصلبة، ولا تدرس درجة تلاؤمها مع الشروط الصحية والسلامة العامة وحماية البيئة واستدامة الموارد، كذلك كان ينبغي لها أن تكون وفق متطلبات المرسوم المتعلق بدراسات التقييم الاستراتيجي. بل هي تتناول قراري مجلس الوزراء، ومن المعروف أن هذين القرارين يتناولان توزيع المناطق، وشروط التلزيم، وبعض التوجيهات العامة والمتداخلة، وغير الدقيقة المتعلقة بإدارة النفايات وتلزيمها للقطاع الخاص، مع ترك اختيار المواقع والتقنيات للشركات، التي سيرسو عليها التلزيم. ويلفت قديح إلى أن مرسوم دراسات التقييم الاستراتيجي البيئي الرقم 8213، الموقع بتاريخ 24 أيار 2012، ينص في مادته الأولى: «على أن دراسة التقييم الاستراتيجي تسبق إقرار مشروع السياسة أو الخطة أو البرنامج، وهذا يشبه وضع العربة أمام الحصان، وبالتالي فلا قيمة لتنفيذ الدراسة بعد أن تكون قد أقرت الخطة في مجلس الوزراء». ويضيف قديح: «ليس هناك أي تقييم للآثار الصحية المتوقعة، ولا لآثارها على البيئة واستدامة الموارد. فكيف لدراسة أن تقوم بتقييم خطة استراتيجية لا تحدد فيها تقنيات إدارة النفايات، بل تتركها لخيار الشركات المتعهدة، وكذلك مواقع منشآت الإدارة تلك؟». إذن، لا تتوافق الدراسة مع هدف مرسوم التقييم الاستراتيجي البيئي، وهي بالتالي ليست دراسة استراتيجية.
بدوره يؤكد نجيم وجود مغالطات جمّة ضمن السناريوات الثلاثة التي أعدها الخبراء الأوروبيون. حيث يرى أن الهدف الحقيقي من الدراسة الإيحاء بأن الحل الأنسب هو ما اتخذه مجلس الوزراء من قرارات (بما فيها القرار رقم 1/ 2015) بغض النظر عن حقيقة وضع النفايات المنزلية وجديّة الأرقام والنسب المُعتمدة في الجداول، إذ عندما يكون الأساس مغلوطاً تصبح النتائج بأكملها خاطئة وتضليليّة.
ومن الأمثلة التي يقدمها نجيم، اعتماد الدراسة الأوروبية أوزاناً للنفايات مُختلفة تماماً عما صدر عن وزارة البيئة ومجلس الإنماء والإعمار، وحتّى الاختصاصيّين وشركات الإحصاء ومن جهة أخرى غير مطابقة نهائيّاً مع حقيقة واقع النفايات المنزلية في لبنان. ويلفت نجيم إلى أن اللجوء إلى دمج جميع المناطق ضمن دراسة واحدة دون أي تفصيل هي بالنسبة إلى لبنان مُقاربة خاطئة. ويعيب نجيم على الدراسة أنها تعتمد النسب التي توصلت إليها شركة سوكلين في العقود الحالية (التدوير 8%، علماً بأن المطلوب الوصول إلى نسبة 30%، والتسبيخ 39% بدل من 60%)، بالإضافة إلى حسم ثلث المجموع العام من النفايات ودراسة الثلثين فقط تحت عنوان القدرة المتوافرة للفرز.