ربما يكون «الشعب» اللبناني هو الوحيد ـ على مستوى العالم ـ الذي يقوم أشخاص آخرون من جنسيات أخرى، بجمع نفاياته. هذه «الفرادة» تجعله أرفع من مهنة «جمع النفايات»... في بلاده حصراً، لكونها لا تناسب «البرستيج». لكن، ماذا لو سافر إلى خارج الحدود اللبنانية وتسكع هناك بلا عمل؟ ربما، ستجده حينها من أمهر «الزبّالين».
المهم ألا تقع عين لبناني آخر عليه. لا تعود المهنة «وضيعة»، سواء مسح صحون الأوروبيين أو ارتدى «روب» عمّال النظافة، أو حتى غاص في مجاري الصرف الصحي. العمل هناك «شريف» أما في بلاده فـ... «يا عيبو»! يدرك أن رؤية الأجانب له، أثناء كدحه، تختلف عما هي في بلاده. الأجنبي «ذو نزعة إنسانية» (نظريّة الرجل الأبيض التي تبهر اللبنانيين)، وتالياً، اللقب هناك لن يكون «الزبّال»، بل عامل نظافة، يتمتع بكرامته الإنسانية، كأي مواطن آخر، له حقوق وعليه واجبات». وتلك «ثقافة»، خبرها كمال، يوم تاه في أوروبا، وراح يتنقل بين دول اتحادها متسللاً الحدود. عاش فيها سنواتٍ كثيرة، ورأى كيف أن بعض اللبنانيين ـ العاملون في النظافة تحديداً ـ يتحاشون عيون اللبنانيين أمثالهم أثناء العمل وأحياناً يُغطّون وجوههم بالثياب أو يشيحون بملامحهم جانباً، إن باغتهم أحد على حين غفلة.

يُقال إن راتب عامل النظافة في اليابان يصل إلى حدود الثمانية
آلاف دولار شهرياً
ما سر تضخم «إيغو» اللبناني؟ من الذي أقنعه بأنه «متفوّق» بإمكانه «الترفع» عن العمل؟ لا تزال هذه المعادلة، في نظر كمال، اللبناني الأربعيني، غير مفهومة.
في بلاد أخرى، مثل اليابان، تُقام لـ«مهندس النظافة» (كما يسمّونه هناك) تماثيل من ذهب. يُقال إن راتبه الشهري يصل إلى حدود الثمانية آلاف دولار. يعرف اليابانيون، أنه لولا ذاك العامل لغرقت البلاد في القمامة، ولما استطاعوا العيش من دونه، وبالتالي يصبح هنا في منفعته منافساً للرئيس والوزير والنائب والقاضي والضابط والمدير. هو «وجود الضرورة» عندهم، وهكذا وجود يوجب الاحترام، فضلاً عمّا له من حق الاحترام لكونه إنساناً. مهلاً، أين اللبناني (مش هينة تكون لبناني) من كل هذا؟ أين «مسبّع الكارات» من هذه الثقافة؟
كيف أصبح «الغريب» هو المنوط به جمع القمامة، في لبنان، لا أحد يعرف. سؤال آخر: كيف تحوّلت إمبراطورية «سوكلين» إلى ساحة للعمال الأجانب ــ والأجانب هنا لا تشمل «الرجل الأبيض» حتماً ــ في حين يغيب العامل اللبناني عنها إلا نادراً؟ الجواب: لا مكان لأبناء «وطن النجوم» هنا. لكن مهلاً، سابقاً لم يكن هناك «سوكلين» ولا سواها من شركات أعمال النظافة، تحديداً قبل مرحلة الحرب الأهلية، فمن كان يؤدي المهمة؟ كثيرون اليوم لم يسمعوا عبارة «إجت البلدية». ظلت هذه العبارة لسنوات طوال هي الإشارة إلى تلك الشاحنة، التي كانت غالباً صفراء اللون، لا خضراء، ولم يكن عليها أي كتابات لاسم شركة ما. إنها شاحنة البلدية. كانت كلمة «البلدية»، في مرحلة ما تلخص كل عمل البلدية. آنذاك لم يكن العامل الأجنبي هو الموكل بمهمة جمع نفايات اللبناني، بل كان لبنانياً «صافيّاً». عامل من الفقراء دائماً، في وعي اللبنانيين، ولم يكن يعرفه أحد باسمه الحقيقي غالباً.

النظرة الدونية إلى عامل النظافة، في لبنان، لم تكن يوماً نظرة إنسانية. فهنا، هو «الزبّال»، لا مهندس النظافة
لدينا نماذج في بيروت وضواحيها، يتذكرون «أبو عدنان» أو «أبو إبراهيم». هكذا تركبت هرمية مسخة للطبقات الاجتماعية في البلاد. النظرة الدونية إلى عامل النظافة، في لبنان، لم تكن يوماً نظرة إنسانية. فهنا، هو «الزبّال»، لا مهندس النظافة.
خلال المونديال الأخير، أضرب عمّال النظافة في مدينة ريو دي جانيرو البرازيليّة الشهيرة، احتجاجاً على تدّني رواتبهم، فتجاهلتهم السلطات بداية الأمر. لكن ما هي إلا أيام حتى غرقت شوارع إحدى أشهر مدن أميركا اللاتينية بأكياس النفايات. راحت السلطات المعنية تفاوضهم ـ وكلهم من البرازيليين ولا أجانب هناك ـ بعدما أثبتوا للجميع أنهم ليسوا تفصيلاً في الحياة الاجتماعية، بل إن دورهم يرقى، بل ربما يزيد، على دور بعض الوزارات التي يتولاها أشخاص بكامل أناقتهم. قبل 10 سنوات، في لبنان، تجمهر نحو 400 عامل نظافة أجنبي (جلهم من السوريين) في منطقة الكرنتينا، فتصدّت لهم القوى الأمنية والجيش بالقوة. ما الحكاية؟ لم يكن مطلبهم رفع أجورهم، بل فقط التعبير عن غضبهم بسبب «اعتداء بعض اللبنانيين عليهم من غير سبب». ضاقوا ذرعاً بعنصرية بعض اللبنانيين تجاههم، والحديث هنا عن حقبة ما قبل اغتيال رفيق الحريري، ما دفعهم إلى التصادم مع القوى الأمنية حيث أصيب البعض بجروح. هذا هو اللبناني (مجدداً: «مش هينة تكون لبناني»)، لا يعمل في جمع النفايات، نفاياته هو، وإن وجد سواه يفعلها فسيقوم بالاعتداء عليه، أو في أحسن الأحوال يزدريه عنصرياً وطبقياً. تخيّلوا، اليوم، كيف هي النظرة إلى ذاك العامل عندما تجتمع فيه صفتا «الزبّال» و«السوري» معاً... ستنصب عليه تفاهة العنصريّة من كل حدب وصوب. ذلك رغم أن «عامل النظافة» صاحب فضل على «الشعب»، وكذلك «السوري» العامل والأخ... «غير الشقيق» طبعاً!