من الطفولية السياسية الجنوح العفوي نحو «نظرية المؤامرة» في تفسير كل ظاهرة قاهرة في الشأن العام. بحيث ترمي مسؤولية عجزك على قوة مجهولة غيبية كليّة القدرة. كأنها غرفة عمليات سماوية تحدد حتميات الأرض. تماماً كما هو قصور في التفكير والعمل، الركون إلى نظرية أن التاريخ يعيد نفسه. فتبرر فشلك في تغيير المسارات، أو سقوطك في تكرار الأخطاء وإعادة النكسات والنكبات والأزمات... لكن مع ذلك، ثمة أمور، قد تكون مجرد مصادفات، وقد تكون أساطير واهمة أو مؤسسة، لا بد من التوقف عندها، منها قصة اسرائيل و»داعش».
ليس المقصود ذلك التحقيق المصور الذي نشره موقع «فيتيرانز توداي»، والذي يزعم اكتشاف الهوية الحقيقية لخليفة «داعش»، على أنه عميل للموساد الاسرائيلي، اسمه إليوت شيمون. ولا المقصود بالإضاءة المطلوبة ربط الموضوع بتسريبات إدوارد سنودن عن أن «داعش» والبغدادي من صنع مثلث مخابراتي بين واشنطن ولندن وتل أبيب. لكن، بكل بساطة، يمكن رصد هذا الاستشراس الذي تعيشه اسرائيل، منذ بدا أن «داعش» كمشروع دولة قد تراجع، وأنها لم تعد تستمر إلا كوظيفة محدودة في المكان والزمان، وكوظيفة معدة للنفاد وانتهاء الصلاحية. استشراس اسرائيلي، يتزامن مع زمن انتخابات الكيان الصهيوني. وهو الزمن الذي يعيد فيه الصهاينة استخراج موروثاتهم الدينية وكلامهم الأبوكاليبسي وإرهاصاتهم التوراتية. من باب الدعاية الانتخابية ربما، أو من باب المزايدات الداخلية وخطابات جذب الأصوات. غير أن هذه كلها تظل مؤشراً على طبيعة غيبية عميقة مؤسسة لهذا الكيان، ومستمرة فاعلة في وجوده وفكره وسلوكه ومخططاته.
يبدو واضحاً أن ثمة غضباً اسرائيلياً من تراجع دور «داعش»، ومن تقدم المسار الأميركي الإيراني. على الأقل، لأن أول بواكير اتفاق بين واشنطن وطهران، سيجد ترجمته في العراق. في تكريت. وربما غداً في الموصل، وبالتالي في ضرب دولة الخلافة. هذه الدولة التي كانت ماضية بجد وجهد، في تدمير حاضر العراق كما تاريخه. شعبه كما آثاره. الإنسان كما كنوز المتاحف. المتاحف نفسها التي تفتقدها اسرائيل. والتي عجزت كل بعثاتها العلمية والأركيولوجية عن اكتشاف آثارها التاريخية التي تدعي التأسيس عليها.
هل من رابط بين كل هذا، وبين تدمير متحف في الموصل، أو بين تسريبات عن فتاوى داعشية بضرب أهرام مصر؟
فلنبدأ محاولة الربط التحليلي، بقصة مؤسس الصهيونية، تيودور هرتزل، مع عبد الحميد الثاني. معروفة تاريخياً وقائع محاولة هرتزل شراء فلسطين من السلطان العثماني. عرض عليه الأموال. طرح مشاريع استثمارية. حاول الضغط... من دون جدوى. بعد دزينة من اللقاءات، وبعد فشل المساعي، قيل إن عبد الحميد دفع ــــ في مكان ما ــــ ثمن تصلّبه في وجه المشروع الصهيوني. وقع الانقلاب على حكمه، وتم نفيه. في كتب التاريخ ثمة رسالة منسوبة إلى عبد الحميد من منفاه، وجّهها إلى أحد مشايخ التقليد، محمود أفندي أبو الشامات. يروي فيها السلطان كيف تآمر عليه الصهاينة حتى أقصوه عن الحكم. وفي ملحقات منسوبة إلى الكتابات الحميدية نفسها، كلام عن أن عبد الحميد قال لشيخه، إن المشروع الصهيوني لن يكتفي بابتلاع فلسطين. بل سمع كلاماً من هرتزل مفاده أن حركته ستذهب إلى تدمير العراق، انتقاماً لسبي بابل. وإنها ستفعل الشيء نفسه في مصر وأهرامها، ثأراً من فرعون ولحدث الخروج من مصر.
قد تكون تلك الكتابات منحولة. كما الكثير من الكلام عن مخططات الصهيونية. غير أن ما يحصل في العراق تأكيد مستقل لمضامينها. تماماً كما التهديد بتسوية الأهرامات بالأرض.
لا تنتهي مفارقة التواريخ الصهيونية عند هذا الحد. ثمة من يذهب أبعد في الزمن لاستقرائها. ثمة من يرى أن كل معركة داعش في «شمال» فلسطين في حزيران 2014، إنما قد رسمت وكتبت قبل ذلك التاريخ بنحو 2600 سنة. ففي بعض الصفحات التوراتية، مثل سفر إرميا، كلام «أبوكاليبسي» آخر، عن أنه «من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض». إذ يقول إله اليهود لناسه: «ارفعوا الراية نحو صهيون. احتموا. لا تقفوا. لأني آت بشرّ من الشمال، وكسر عظيم». «قد صعد الأسد من غابته، وزحف مهلك الأمم. خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابا. تخرب مدنك فلا ساكن». «هوذا صوت خبر جاء، واضطراب عظيم من أرض الشمال لجعل مدن يهوذا خرابا، مأوى بنات آوى». «فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه، فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم. لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات». وفي يوم كهذا هي «مصر عجلة حسنة جدا. الهلاك من الشمال جاء جاء». «لأنه قد طلعت عليها أمة من الشمال هي تجعل أرضها خربة فلا يكون فيها ساكن. من إنسان إلى حيوان هربوا وذهبوا». «فتهتف على بابل السماوات والأرض وكل ما فيها، لأن الناهبين يأتون عليها من الشمال، يقول الرب».
هي «داعش» إذن مشروع صهيوني منذ أكثر من ألفيتين ونصف؟ قد يكون ذلك كله مجرد خرافة لا غير؟ لكن من يقنع أهل الكيان الخرافة، أنه وأنهم وأن كل مشاريعهم ليست كذلك؟!