قبل خمسة أشهر، اكتشفت وزارة الصحة العامة سرقة 4 مليارات ليرة من خلال فواتير وهمية قدّمتها أربعة مستشفيات متعاقدة مع الوزارة. أحيل الملف إلى القضاء الذي ادّعى على أحد أطباء الوزارة بوصفه متواطئاً في عملية تزوير الملفات مع المستشفيات، لكن طرأ حدثان على هذه الواقعة يمثّلان فضيحة أكبر من حادثة السرقة، إذ تبيّن أن الملفات التي تكشف عملية السرقة، سُرقت بدورها من أروقة الوزارة، فيما أخلي سبيل المشتبه فيه!
أفضت عمليات التدقيق التي أجرتها وزارة الصحة العامة في فواتير بعض المستشفيات إلى كشف واحدة من أكبر عمليات التزوير والسرقة للمال العام. ففي تشرين الأول الماضي، تبيّن أن هناك أربعة مستشفيات مصنّفة فئة ثانية (أي تلك التي تقدّم خدمات العلاج الفيزيائي، والتي تعنى بمرضى الأمراض المزمنة لدى المتقدمين في العمر، وتركيب الأطراف، والأمراض العقلية...) ومقرّها شمال لبنان، كانت تزوّر الفواتير التي ترسلها إلى وزارة الصحة عن مواطنين تلقوا العلاج على حساب الوزارة. المستشفيات المذكورة كانت تسلّم فواتيرها إلى أحد موظفي وزارة الصحة المعنيين، إلا أن هذا الأخير لم يكن يجري الحدّ الأدنى من التدقيق في الفواتير، ما أثار شبهات كثيرة حوله. لاحقاً تبيّن أن موافقته السريعة التي كان يمنحها على الفواتير لسداد قيمتها إلى المستشفيات، تنطوي على تواطؤ في إطار سرقة المال العام. يومها، أظهرت التحقيقات أن هناك فواتير عن مرضى دخلوا لتلقي العلاج الفيزيائي وحصلوا على جلسات علاج متواصلة طوال أيام الشهر، وأن بعضهم كان مسجّلاً في أكثر من مستشفى وبعضهم الآخر ليسوا أصلاً أحياء، بل أموات منذ سنوات... أُدخل بعض المرضى في حالة «كوما» فيما هم مسجّلون في علاجات التأهيل الجسدي. غيرهم كان مسجّلاً ضمن الفواتير وتلقى علاجات عديدة من أدوية وعلاج فيزيائي وغيرها، رغم أنه لم يدخل إلى مستشفى طوال حياته وتبينّ أنهم شبه مقيمين في أسرّة المستشفيات!
لائحة السرقة تطول، وهو ما اطلع عليه القاضي رفول بستاني بصورة مفصّلة دفعته إلى توقيف المشتبه فيه. إلا أن بستاني نفسه فوجئ حين استُغل غيابه لأيام عن موقعه، فاتخذ القاضي البديل قراراً بإخلاء سبيل المشتبه فيه بعد توقيفه لفترة ستة أشهر. كان بستاني قد حدّد كفالة بقيمة 500 مليون ليرة لإخراج المشتبه فيه، إلا أن إخلاء سبيله جاء بقيمة لا تتجاوز 50 مليون ليرة، وهو ما أثار الكثير من الشبهات حول طبيعة المتورطين والدعم السياسي الذي يتلقاه المشتبه فيه والمستشفيات المتورطة.
في القضية نفسها، تبيّن لوزير الصحة وائل أبو فاعور أن الملفات العائدة للمستشفيات الأربعة والتي جرى التدقيق فيها واستخراج عمليات التزوير منها، سرقت من الوزارة! كان غريباً جداً أن تسرق هذه الملفات بسبب حجمها، إذ يتطلب نقلها عمالاً ومعرفة بمكانها واطلاعاً على مضامينها. كيف تخرج آلاف الأوراق من الوزارة من دون أن يعرف أحد بكيفية خروجها والأيادي السوداء التي حملتها ونقلتها؟ أين اختفت هذه الملفات؟ هل لا تزال في داخل الوزارة في مكان مجهول، أم أنها خرجت منها رغم وجود الحراسة الأمنية المشددة على مداخل وزارة الصحة ورغم وجود كاميرات المراقبة المنتشرة في محيطها حيث توجد نقاط أمنية عديدة؟ من لديه الجرأة للقيام بهذا الأمر؟ الأمر يستدعي الكثير من التساؤلات التي لا أجوبة عنها حتى الساعة. هناك مجرّد شكوك تحوم حول بعض الموظفين في وزارة الصحة الذين خططوا وسهّلوا مهمة نقل الملفات. وبحسب مصادر مطلعة، فإن الملفات قد تكون أتلفت تزامناً مع إخلاء سبيل المشتبه فيه. وزير الصحة العامة وائل أبو فاعور قدّم ادعاءً شخصياً أمام القضاء ضدّ عملية سرقة الملفات، إلا أن المطلعين يؤكدون أن الغطاء السياسي الذي منح المشتبه فيه إخلاء سبيل هو نفسه الغطاء الذي سيؤدي إلى إطفاء القضية من أساسها من دون حساب.