هل هنالك مشروع ٌ شيعيٌ؟ ينطوي هذا السؤال على القول بوجود مركز يفكّر ويقرّر الاستراتيجية والتكتيكات على أساس مذهبي. هذا المركز، كما يتخيّل الكثيرون، يتمثل في الجمهورية الإسلامية في إيران.غير أن هذه المقاربة زائفة من أساسها. ولا أعني، بذلك، أنها غير صحيحة. فمن غير الممكن نفي وجود استراتيجية اقليمية إيرانية تلحظ الإفادة من قوى التشيّع العربي؛ إنما أعني أن التشيّع العربي يعبّر عن دينامية اجتماعية تاريخية موضوعية، وليس «مؤامرة « يتم تصنيعها لدى الأجهزة الإيرانية.
علينا أن نلاحظ، هنا، بوضوح شديد، أن تلك الدينامية هي الوحيدة التي استمرت، فاعلةً، في التاريخ العربي ــــ الإسلاميّ، هي الدينامية الشيعية ــــ بكل مدارسها وتفرّعاتها ــــ وقد مرت، حتى الآن، في أربع مراحل؛ بدأت الأولى، كتعبير عن اسلام عراقي يستوعب التقاليد الدينية والثقافية المتراكمة في ما بين النهرين، ويدفع بتجديد الحضور العراقي في التاريخ، قابلته، في الشام، دولة وثنية ــــ مسيحية هي «الخلافة» الأموية التي انتصرت لسببين، أولهما استنادها إلى العصبية العربية، وثانيهما الدمج بين قوى هذه العصبية والتراث والكتل الاجتماعية لما قبل الإسلام الذي كان لا يزال يتشكّل، بالمعنى التاريخي، في سياق شيعي بالذات، ما سمح بولادة المرحلة الثانية من حركة التشيّع العربي، في ظل الخلافة العباسية، وبالصراع معها. إن كل التاريخ العربي اللاحق، حتى الأيوبيين (فالمماليك فالعثمانيين)، كان يتحرّك بالدينامية الشيعية، وما تناسل منها من مذاهب وحركات محافظة وثورية. واستوعبت هذه الدينامية، طوال أربعة قرون (الثامن ــــ الحادي عشر الميلادي) استمرارية تراث المنطقة القديم ــــ المتجدد، وعبّرت عن مصالح الفلاحين والكادحين والمثقفين، كذلك عن المنحى العربي والتشكّل الوطني المحلي في مواجهة الدول الغاصبة المتغلّبة. شهدت هذه القرون، المضطربة بالسجالات والانتفاضات والحيوية الثقافية، ولادة إمارات شيعية؛ كالإمارة الحمدانية المقاتلة في حلب ــــ وارتكزت على خطاب القتال ضد الروم، ما يذكّرنا اليوم بخطاب حزب الله في المقاومة ــــ والجمهورية القرمطية الاشتراكية في البحرين الكبرى. إلا أن التعبير الأهم عن الدينامية الشيعية تمثّل في الخلافة الفاطمية التي بانحلالها، انتهى التاريخ العربي، لصالح المتغلبين من أكراد ومماليك وعثمانيين، ممن استطاعوا، بالعنف الدموي، تجميد الحياة الفكرية والسياسية العربية، وفرض نموذج مذهبي واحد، أطّره ابن تيمية في أيديولوجية سلطوية ما تزال مصدراً للسلطات المتغلّبة والحركات التي تعبّر عن تقاليد الغزو والنهب والقتل لصحارى الجزيرة العربية. وكانت ديناميات الحداثة العربية، في القرن العشرين، جديرة بوضع حدّ نهائي لتلك الأيديولوجية، لولا مصادفة النفط التي سمحت للقوى القديمة، الآتية من كهوف التاريخ في نجد، أن تحظى بالمال اللازم والدعم الغربي والثقل السياسي، مما مكّنها من إحياء نموذج ديني ما يزال فاعلاً في دول وكتل جماهيرية وحركات، من السعودية وقطر إلى الإخوان المسلمين إلى «النصرة» و»داعش» ، ومن لفّ لفهما.
يلاحظ الباحث العراقي، عبد الأمير الركابي، أن الدينامية الشيعية العراقية الحديثة، هي التي أطلقت المرحلة الشيعية الثالثة التي لا تشكّل استمراراً للتشيّع القديم، وإنما هي تعبير عن تشكّل اجتماعي وطني عراقي حديث، استمر لأكثر من قرنين (الثامن والتاسع عشر الميلاديين)، وانقطع بعد تأسيس الدولة العراقية المفروضة من الخارج، في العام 1921. ويؤكد الركابي على أمرين، الأول، أن الدينامية الشيعية الحديثة في العراق، «ترافقت مع تحوّلات داخل النجف ــــ المدينة الدولة المقدسة الحديثة ــــ تلاءمت مع بنية العشيرة العراقية الجنوبية، وسماتها القريبة من الشيوع والديموقراطية الفطرية. ومن هنا انبثقت آليات ممارسة «نظام الاجتهاد» و»التقليد» و»الحوزة» التي هي مبتدعات «دولة ــــ مدينة»، بمقاييس ومفاعيل لا تنتمي للإكراهية السلطوية، ولا لاحتكار العنف والسلاح؛ فـ «التقليد» هو وسيلة ربط القبيلة بالمراجع، عقيدياً، و»الاجتهاد» نظام أقرب إلى النظام الداخلي العشيري، ولأشكال تداول المشيخة والنفوذ فيها»، والثاني أن التقاليد الشيعية الحديثة فاضت من العراق إلى خارجه، و»ليس ما يقال، من دون بيّنة ولا تدقيق، عن الغلبة الصفوية؛ فإيران، من قم الى مشهد، أخذت بنظام الاجتهاد الشيعي العراقي، لا بنظام السلطوية الصفوي، الذي زال ولم تعد له قواعد تمارس».
الدينامية الشيعية، اليوم، تدخل طورها الرابع. وهي تدخله كتحقق نهائي متأخر للإسلام، بوصفه أيديولوجية وطنية ــــ ديموقراطية، ستنجز انفصالاً فكرياً ــــ وليس، بالضرورة، سياسياً ــــ عن التشيّع الإيراني. نلاحظ، هنا، أن نظام ولاية الفقيه وفرض نموذج شيعي ــــ وهابي محافظ على الحياة الاجتماعية، ليس لهما أي امكانية تاريخية في المجتمعات العربية التي يلعب فيها التشيّع السياسي دوراً أساسياً. فحزب الله، على فائض قوته في لبنان، يظل مقيداً بالتعددية السياسية والثقافية في هذا البلد، كما أن الوجود الكثيف لمقاتليه والحرس الثوري الإيراني في سوريا، لا يمكنه أن يغيّر نظامها العلماني القائم على التعددية الدينية والثقافية. وفي اليمن، لا علاقة للزيدية المنتصرة بالأيديولوجية الدينية الإيرانية، وتقدّم حركة «أنصار الله» نفسها بخطاب مبني على الشراكة الوطنية. وفي البحرين، اكتسب التشيّع السياسي طابعاً ديموقراطياً صريحاً. على أن مركز الثقل الشيعي العربي، يظل في العراق. والعراق، كما يلاحظ الركابي بجرأة، يتجه نحو استمرار العملية التاريخية ــــ التي انقطعت في ظل الملكية الهاشمية والجمهورية البعثية ــــ والمتمثلة في استكمال تشيّع القبائل العربية، شمالي وغربي العراق. والتشيع العراقي المعبّر، بالأساس، عن دينامية تشكّل وطني، له تقاليده وهويته، وللعراق نفسه، ككيان، شخصية ومصالح وثقافة وجذور ومكانة قومية، كلّها ستدفع نحو علاقات ندية مع إيران.
يكتشف مسيحيو المشرق، أكثر فأكثر، عمق الروابط الروحية والسياسية التي تربطهم بالفضاء الشيعي الأوسع، ويندرجون، بسبب أهوال الحرب على سوريا، في سياق التشيّع السياسي. والمسيحية المشرقية قوة اجتماعية وسياسية وثقافية، لا تُقاس كمياً، وإنما نوعياً؛ بل إن اصطفافها السياسي ربما يكون حاسماً في بلورة نهضة عربية جديدة. تدفع الوهابية والاخوانية والتكفيرية الإرهابية، المسيحيين العرب، إلى الهجرة، مستخدمة كل الوسائل من دعاية الكراهية إلى القتل الجماعي، بينما تلزّ التقاليد الثقافية والضرورة السياسية معاً، الفضاء الشيعي لاستبقاء المسيحية المشرقية، وتعزيزها. وهذا سياق جدي لحوار شيعي ــــ مسيحي فعال، يتحرر من مجاملات الحوار الإسلامي ــــ المسيحي، والتكاذب العلني في مؤتمرات التقريب بين المذاهب.
أخيرا، سيرتكب المعنيون خطأ كبيرا في أي مسعى لتحويل الفضاء الشيعي التعددي إلى واحدية الإثني عشرية؛ سيحوّل مسعى كهذا، الدينامية الشيعية من دينامية قومية ومدنية، إلى نوع جامد من التشيع الوهابي والسلفية.
7 تعليق
التعليقات
-
مقال ايجابيرغم التحفظ على الكثير من مقالات الاستاذ ناهض ومواقفه الحادة احيانا تجاه الاسلام السياسي الا ان الانصاف يقتضي ان نشيد بمقاله هذا الذي حاول فيه ان يتجاوز خلفياته الاديولوجية اليسارية وعمد الى قراءة تاريخ التيارات الدينية بشكل ايجابي ومنصف.رغم النقاش الكثير حول بعض الافكار التي طرحها والتي فيها شيء من التعميم الارتجالي بصورة غير دقيقة .من هنا انا لا افهم كلام المعلق احمد بحملته الشعواء على الكاتب الى حد يقتضي التهويل عليه وعلى عائلته!!!اظن ان المعلق المحترم ربما لم يقرء المفال اصلا.فهل هذه اخلاق اهل البيت(ع) التي يدعى الاتباع لهم؟!
-
مقالات الاستاذ ناهض طبية علاجيةمقالات الاستاذ ناهض هي افضل علاج للارق لانها بتكراراتها تدفع الى التثاؤب. فليصبح المشرقيون مع صياح الديك في الشرق غربيين كما يشتهون. فكما قال الشاعر محمود درويش: "والشرق عكس الغرب احيانا. والشرق الغرب احيانا وصورته وسلعته." على فوقة، شو اخبار الكومبرادور؟ وين ايامه؟ "سلم لي عليه وقول له اني بسلم عليه. وبوس لي عينيه وقول له اني ببوس عينيه. انتا يللي بتفهم عليه سلملي عليه سلم." وفي النهاية وبعد كل ذلك الكلام النتيجة واحدة مع المشرقيين والعرب: "أصرخ: أيّها الميلاد عذّبني لأصرخ أيّها الميلاد... من أجل التداعي أمتطي درب الشآم لعلّ لي رؤيا و أخجل من صدى الأجراس و هو يجيئني صدأ و أصرخ في أثينا: كيف تنهارين فينا؟ ثم أهمس في خيام البدو : وجهي ليس حنطيّا تماما و العروق مليئة بالقمح... أسأل آخر الإسلام : هل في البدء كان النفط أم في البدء كان السخط ؟ ... أرى مدنا تتوّج فاتحيها و تصدّر الشهداء كي تستورد الويسكي و أحدث منجزات الجنس و التعذيب ..." وشكرا
-
هذا المقال اكثر من رااااااائع هذا المقال اكثر من رااااااائع
-
الكاتب مدعو لإعادة قراءةالكاتب مدعو لإعادة قراءة تاريخ الحوزة الشيعية (ألف سنة)، والاجتهاد والتقليد (1200 سنة) عند الشيعة..
-
هل هناك مشروع شيعي استاذ ناهض حتر / اسمح لي ان اقول لك مقالك اقرب الى التحريض منها الى التساؤل . منذ متي اصبحت محرضا على فئة من اخوانك في المواطنة , عنوانك هذا يدل على جهل كبير لديك عن مذهب اهل البيت , الشيعي ’ ننصحك ان تملاء ذالك الفراغ , قبل ان تستمر في كتاباتك الذي قد تدفع ثمنها انت وعائلتك على المدى البعيد . مذهب اهل بيت محمد , الذي هو اصل دين محمد , الحامل لمبادي وعقيدة تعتبر الاسمى والاكثر مثالية , عقلا وحكمتا والأكمل في العالم من بين كل الاديان والمذاهب , لو تسنى لك ان تدرس مبادئهء , من منظار اهل بيت محمد ورسالته , وليس من منظار محرف آخر , لاكتشفت صدق ما اقول .
-
سئمنا تجارة الكلام!!انتقاء المفردات وجعلها صفات ووضعها على تصرفات بطريقة منمقة لا يجعل التصرفات ووصفها حقيقة. انما يجعل مما يقال هنا عملية دعائية مسيرة لاهداف محددة. اقلب الصفات في المقال هنا بين الفريقين الموصوفين لتجد نفس الزخم و"الحقائق" بالاتجاه المعاكس. سئمنا تجارة الكلام!!
-
في لبنان مقياس تهجيري للمسيحي من السني و الشيعيمنظومة المصالح التي ولدت من رحم الطائف و التي عمادها براغماتية النهب لا تقيم اعتبار لا لمنبع تاريخي ولا لأي نظرة مستقبلية... المنظومات هذه التي أعدت لوصول الطايف دابت على نهش المسيحي بشرا وحجرا (في حروب الجبال) و سلطة و مواقع و حضور في بنية الدولة على أيدي (شبيبة حرب ما قبل الطائف و أصبحوا دولة ما بعد الطائف) ... لن يبقى المسيحي في شرقهم المنهوب وسيهاجر الى الغرب واسقاعه و أقصى استراليا اذا لم يكن فعل... و سيترك لهم تطاحنهم بين سني و شيعي و وهبي و فقيهي نجدي و نجفي .... لاستكمال حرب خرافة ١٤٠٠ سنة التاريخية و نهب البلد الجريح بسكاكينهم.... ممارساتهم بنهب لبنان لا يبقي لا مسيحي ولا عاقل و لا مسالم ولا مؤمن فعلي ولا مستقيم... انها حضارة "الفان والموتسكل و السير بعكس السير" وهذا ليس بلد قابل للعيش ولكن لنهب ماتبقى على يدهم سنة وشيعة ودروز و سيصلون يوما ما لنهش بعضهم كما العراق و اليمن وسوريا ... كل قرن و أنتم بخير....