نفذ زعيم حزب «العمال الكردستاني»، عبدالله أوجلان، اتفاقه مع حكومة «العدالة والتنمية»، بعدما دعته انقرة إلى اتخاذ قرار تاريخي واستراتيجي بإلقاء السلاح واستبدال المعارك العسكرية بتلك السياسية، وتنظيم مؤتمر في الربيع لبحث عملية إلقاء السلاح، من ضمن عملية «السلام الداخلي». ولكن بالرغم من أن ردّ الحزب على بيان أوجلان كان إيجابياً، إلا أنه جاء مشروطاً بضرورة اتخاذ الحكومة التركية خطوات كبيرة وملموسة، وأن يكون لأنقرة ردّ سياسي حتى لا تخرج عملية السلام عن مسارها.
مخاض المصالحة التركية ـ الكردية التاريخية، لا يجري بصورةٍ طبيعية. هو يعمّق الشقاق في صفوف حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، إلى جانب تأثيراته السلبية على أكثر من اتجاه، وخصوصاً على الرأي العام التركي المناهض لهذه المصالحة، ما يجعل الرئيس رجب أردوغان يسعى إلى «طمأنتها» بشتى الوسائل، حفاظاً على حظوظ حزبه في الانتخابات البرلمانية المقبلة التي ستمكّنه، إذا فاز بغالبيةٍ من تعديل دستور البلاد، ليصبح نظام الحكم رئاسياً.
ترمي العمليات على مواقع «الكردستاني» إلى استقطاب أصوات القوميين الأتراك

ورحب أردوغان بالدعوة إلى إلقاء السلاح، لكنه أكد أن «الذين يتعين عليهم إلقاء السلاح هم أعضاء «في منظمة الإرهابية (في إشارةٍ إلى منظمة «بي كا كا») لا القوى الأمنية»، مشدداً على أهمية التنفيذ بمقدار ما سيعكسه على أرض الواقع قبل الانتخابات، و»أن تكون الأفعال على قدر الأقوال».
من خلال هذا التصريح، أراد أردوغان توجيه رسالتين، الأولى إلى الرأي العام التركي، مفادها بأنه لا يقفعلى نحو مطلق مع أوجلان وأن الحكومة تفاوض بشروطها. أما الرسالة الثانية، فهي موجهة إلى «العمال الكردستاني» من أجل تنفيذ تعهداته قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة في 7 حزيران. لكن أردوغان ما لبث أن صعّد موقفه ضد الحكومة، إذ رأى أن الاتفاق الذي عقد بينها وبين النواب الموالين للأكراد في 28 شباط الماضي، كان «غير مناسب»، وعبّر عن غضبه بسبب الظهور العلني المشترك في قصر «دولماباهشي»، أي في مكتب رئيس الوزراء في اسطنبول، لكل من نائب رئيس الوزراء يالتشين دوغان ونواب موالين للأكراد، كما أبدى أردوغان اعتراضه على لجنة المراقبة المشرفة على عملية «السلام الداخلي» مع الأكراد، ما حمل المتحدث الرسمي باسم الحكومة بولنت أرينش على الردّ بحزم، قائلاً إن عملية السلام تجريها الحكومة، وإنها هي المسؤولة عن هذه القضية، طالباً من أردوغان عدم إطلاق التصريحات العاطفية. قابل أردوغان كلام أرينش، الذي ليس الأول من نوعه، مذكراً بأنه هو الرئيس وبأنه يتشاور مع شعبه في كل قضية.
هذا المناخ أثار بلبلة في الأوساط السياسية، وجملةً من الردود بين أعضاء حزب «العدالة والتنمية»، ما أوحى بأن هناك انقساما حول الموضوع الكردي داخل الحزب الحاكم، و»أزمة صلاحيات» بين الحكومة وأردوغان. وبعد اجتماع بينه وبين أردوغان، أكد رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو أن لا خلاف في حزب «العدالة والتنمية» بسبب التراشق الاعلامي بين أرينش ومحافظ أنقرة، الذي طالب بإقالة أرينش على خلفية تصدّيه لأردوغان. هذه الصريحات أثارت جملة من التساؤلات، منها عن سبب اعتراض أردوغان، الذي رعى الحوار بين الحكومة وحزب «العمال الكردستاني»، منذ عام 2012 سعياً إلى إيجاد حلّ سياسي للمشكلة الكردية، على صور نواب حزب «الشعوب الديمقراطي» مع المسؤولين الأتراك، في وقتٍ كان فيه أردوغان قد أكد فيه أنه ليس هناك «مشكلة كردية» في تركيا، بل فقط مشكلة «إرهاب حزب العمال الكردستاني»، في خطاب يحاكي مشاعر حزب الحركة القومية في البلاد. وكان أردوغان منذ توليه رئاسة الحكومة، قد تابع كل خطوات المصالحة، التي جرت تحت إشراف رئيس الاستخبارات، حقان فيدان، كاتم اسراره، بدءاً من اللقاءات مع أوجلان إلى تركيز الجهود على تولي حزب «الشعوب الديموقراطي» التوسّط بين الحكومة و»الكردستاني»، وتأليف لجنة المراقبة، التي اقترحها أوجلان لمفاوضات السلام كشرط، لدعوته مقاتلي الحزب وضع حد للكفاح المسلح، في 21 آذار الحالي.
يبدو أن أردوغان بدأ يقلق من فقدان أصوات القوميين الأتراك والأكراد المحافظين بسبب عملية السلام مع»الكردستاني»، بعد اطلاعه على استطلاعات للرأي. وفي خطوة لافتة أعاد نواب حزب «العدالة والتنمية» طرح مشروع قانون «الحزمة الامنية» على التصويت، بعدما سحبت الحكومة نصف مواد هذه الحزمة، التي تعزز صلاحيات الأمن الداخلي، بسبب احتجاج المعارضة عليه، واشتراط الأكراد سحبها لاستكمال التفاوض. تبدو هذه الخطوة كأنها ترمي إلى استفزاز حزب «الشعوب الديمقراطي» وحمله على الانسحاب من لجنة المراقبة التي ستشرف على تطبيق الاتفاق مع أوجلان وتنفيذ الشروط العشرة. وبذلك، يمكن اتهامه بإفساد عملية السلام والعودة إلى اتباع سياسات مبنية على أساس الأمن. وكان لافتاً في هذا الإطار أيضاً قيام قوات الأمن التركية بشن عملية ضد مخابئ وملاجئ حزب «العمال الكردستاني» في جنوب شرق الأناضول، يوم 24 آذار، بعد إرسال 5 فرق إلى منطقة مازيداي في مقاطعة ماردين، وقول أردوغان إن «السلام ليس ممكناً في ظل الأسلحة»... كل ذلك من أجل إعادة استقطاب أصوات القوميين الاتراك والمحافطين الاكراد.
وفي خضم هذه التحركات أكد زعيم حزب «الشعوب الديموقراطي»، صلاح الدين ديمرتاش، أن هناك شرخاً كبيراً في العلاقة بين الرئيس أردوغان وحكومته، وأن الحكومة تعلم أن عملية السلام «ليست نزع السلاح فقط»، كما أن داوود أوغلو وفريقه يعرفان جيداً ماهية النقاشات التي جرت أخيراً، وهم كانوا مقتنعين بلجنة المراقبة، بحسب ديمرتاش. الزعيم الكردي قال إنه حتى لو أُلغيت اللجنة سوف تستمر المفاوضات للتوصل إلى التسوية التاريخية. لن يضيع ديمرتاش فرصة تخطي حزبه سقف الـ 10% في البرلمان المقبل، وهو يحاول توسيع قاعدة ناخبيه من خارج الاصوات الكردية التقليدية. أما أردوغان، فتزداد خشيته يوماً بعد يوم من عدم حصوله على الاصوات التي يتوقع من خلالها تحقيق رغبته في تغيير الدستور التركي، ما يشي بأن معاركه ستستمر باشكالٍ مختلفة حتى حلول الانتخابات البرلمانية.