دعكم من كتب الاقتصاد كلّها. دعكم من آدم سميث ودافيد ريكاردو وكارل ماركس والفرد مارشال وجون مينارد كينز وجوزف ستيغلتز وتوماس بيكتي... دعكم حتى من ميلتون فريدمان. هؤلاء «مجانين»، بلا عقل، «لا يستطيعون أن يفهموا أو يميّزوا بين الأشياء». وحده فؤاد السنيورة يستطيع ذلك كـ»رجل مال ورجل اقتصاد». دعكم من أطنان الابحاث والدراسات والنماذج الرياضية وأدوات القياس والمقارنة... دعكم من النظريات والوقائع والنتائج والحسابات في المصارف والصناديق والشركات العقارية...
ركّزوا فقط على «سذاجة» المحاميين لاروشيل وقرقماز، اللذين حاولا استدراج فؤاد السنيورة في شهادته أمام «المحكمة الخاصة بلبنان» كي يستعمل عقله ويردّ على مجانين يربطون ما بين ازدياد الثروة الشخصية لرئيس الحكومة رفيق الحريري وازدياد الدين العام للدولة في عهده والاستيلاء على الاملاك العامة والخاصة في وسط بيروت والمنطقة المستحدثة من ردم البحر. هل يريدان فعلاً أن يستعمل السنيورة ما درسه في الجامعة الاميركية عن «ثروة الأمم» و»مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب» و»رأس المال»... من أجل ماذا؟ من أجل تأكيد أو نفي «كلام لا يستأهل حتى وضعه في سلة المهملات». «هذا أمر مستغرب» حقاً.
«كلها شائعات مغرضة لم تكن صحيحة على الاطلاق». هكذا أفحم السنيورة المحاميين. اضطراه بأسئلتهما إلى العودة الى دروسه في «إدارة الأعمال والاقتصاد»، كما كان يفعل في الجامعتين الاميركية واللبنانية (1971- 1976)، قبل أن ينتقل إلى العمل لدى «رفيق النضال»، رفيق الحريري، في إدارة عملياته المصرفية في لبنان منذ عام 1983؟
صحيح أن الدين العام في تلك الفترة (1993- 2004) ازداد من نحو 3 مليارات دولار الى أكثر من 33 مليار دولار (67 ملياراً حالياً)، بحسب الارقام الرسمية، وكذلك ارتفعت قيمة الاراضي في وسط بيروت من 1.2 مليار دولار عند إنجاز التخمينات في عام 1994 الى أكثر من 5 مليارات دولار في عام 2004، على الرغم من كل البيوعات السابقة والارباح الموزّعة في 10 سنوات، بحسب إعلانات الشركة، ولكن السنيورة كان حازماً في دروسه: «هذان أمران لا علاقة ببعضهما البعض على الاطلاق (...) أنا كرجل مال وكرجل اقتصاد أجد أن خلط هذين الامرين لا يسري إلا على من... لا أستطيع أن أصف الكلام».
على من يسري الخلط؟ لا يستطيع السنيورة أن يصف هذا الكلام (ربما) كي لا يتهم بأنه «تكفيري». فالخلط بين هذين الامرين يسري على «الكافر»، لأن الجواب واضح وحاسم ولا يجوز الجدال فيه، فهو قال حرفياً، ردّاً على أسئلة المحامين: «الله سبحانه وتعالى يشتّي الدنيا على الأرض، وهناك ناس يأخذون مياهاً كفاية، وناس لا يصبح لديهم مطر، وناس يصبح لديهم فيضان». كل ما في الامر أن «الله» أنعم على رفيق الحريري بفيضان من الثروة فيما حرم أكثرية الناس من الرذاذ، وترك بعضهم يموتون من العطش. المسألة كلّها ربانية. هو «توزيع إلهي للثروة»، لا يحتاج الى أي شرح أو تفسير.
نعم، «رفيق الحريري كان رجلاً غنياً وثرياً جداً»، والسنيورة ليس مجنوناً كي يدحض ما كان الحريري يرسمه عن نفسه كصاحب ثروة طائلة ونفوذ هائل وعلاقات عابرة للحدود. ولكنه يستطيع أن يقدّر، مجرد تقدير، «أن ثروته نقصت ولم تزد، بسبب ما كان يدفعه من تبنّي الطلاب في الجامعات وما كان يقدّمه من دعم للمؤسسات الخيرية». إلا أن السنيورة الذي خانته الذاكرة في الحديث عن النتائج المادية الواقعة في صلب مسؤولياته الحكومية لمصلحة انتعاش ذكريات اللحظات العاطفية، يعرف تماماً أن نشاطات الحريري لم تكن تقتصر على ممارسة السلطة والتعليم والاعمال الخيرية، بل كانت تشمل المصارف ووسائل الاعلام والعقارات والمضاربات والمقاولات العامة والاتصالات... وأصنافاً كثيرة من الاستثمارات المدرّة للأرباح. وهذا ليس سرّاً.
مثلاً، مجموعة «ميد» المصرفية، التي يمتلكها الحريري وكان السنيورة موظفاً في إدارتها، ارتفعت أرباحها بفضل الاكتتابات في سندات الدين وشهادات الايداع، على غرار المصارف الباقية. وهذا ليس سرّاً أيضاً. هذه المجموعة تعدّ من المصارف الخمسة الكبار، التي تستحوذ على الحصة الاكبر من الموجودات المصرفية، وكذلك من الفوائد المدفوعة على الدين العام (أكثر من 60%). وبحسب الارقام الرسمية، سددت الدولة بين عامي 1993 و2005 نحو 28.7 مليار دولار لخدمة الدين العام، وبالتالي، ذهب جزء مهم من الفوائد المسددة على دين الحكومة الى المصارف، ومنها المصارف التي يملكها مباشرة أو ساهم فيها الحريري.
أيضاً وأيضاً، ليس سرّاً أن رفيق الحريري عدّ «سوليدير» جوهرة ممتلكاته. ليس هناك فخر قد يشعر به الثري أكبر من فخر امتلاك قلب مدينة. حتى السنيورة قال في شهادته إنه نصح الحريري بعدم الاستثمار مباشرة في شركة «سوليدير»، ولكن الحريري ردّ بأنه «من دونه لن يستثمر فيها أحد». طبعاً، من يستطيع أن يمنح شركة خاصة 291 ألفاً و800 متر مربع من ردم البحر على واجهة بيروت بسعر يبلغ 475 مليون دولار؟ يعرف السنيورة أن الحريري أعطى للشركة التي يساهم فيها أراضي على الواجهة البحرية بسعر 1600 دولار للمتر المربع الواحد لتبيعه بسعر 9 آلاف دولار وسطياً! هذا غير الاراضي في وسط بيروت البالغة مساحتها نحو 770 الف متر مربع، والتي أعطيت الى شركة «سوليدير»، غصباً عن أصحاب الحقوق فيها، بسعر 1522 دولاراً للمتر المربع الواحد، لتبيعه بسعر 6 آلاف دولار وسطياً، بحسب تقديرات «FFA Private Bank» المساهم في الشركة نفسها. ليس هذا فحسب، بل إن السنيورة يعرف أن حكومات الحريري منحت «سوليدير» مئات ملايين الدولارات كأرباح إضافية عبر إعفائها من الضرائب والرسوم، ومنها إعفاء الشركة من ضريبة الدخل وتوزيع الارباح لمدة 10 سنوات.
في شهادته أمام «المحكمة»، قدّم فؤاد السنيورة نفسه نموذجاً، ولا أنصع، لمن تولّى إدارة المال العام في المراحل الأكثر فساداً وحراجة في تاريخ هذا النظام (من مرحلة «الإعمار» حتى الآن). دعكم من كل «الأوصاف» التي اكتسبها. وزير ماليّتنا «العاقل» جداً لا يكره شيئاً أكثر من «الحسابات المالية». فؤاد السنيورة ليس «محاسباً» كما جرى تصويره، بل يكره «الحساب»، وهو لذلك أتاح لنا «نعمة» العيش في دولة لا تمتلك موازنة منذ أكثر من عشر سنوات.