ما سرّ التهافت على الإصدار الأخير لسندات اليوروبوند وارتفاع الطلب عليه إلى 4.9 مليارات دولار، أي نحو 5 اضعاف المبلغ المطروح في البداية، وأكثر من ضعفي المبلغ الذي قررت وزارة المال استدانته في النهاية؟ لا يكمن السرّ في هذه السندات بالذات، بل في نوعها، أي كونها سندات دين بالدولار. والسؤال الصحيح، في رأي الوزير السابق شربل نحاس، يكمن في سبب الحاجة إلى هذا النوع من الاستدانة رغم مخاطره الهائلة، وفي كيفية استعمال الاستدانة وربطها بحلقات مالية ونقدية لإنتاج ما يسمى «ثقة» تؤمّن استدانة بالدولار بمبالغ أعلى... انكسار أي حلقة سيؤدي إلى انهيار الحلقات التالية وصولاً إلى «الثقة»، التي استخدمت لتركيز الثروة بيد حفنة من المتنفعين وتجميع النشاط الاقتصادي في خدمة الاستدانة.
استراتيجية اليوروبونز

في تشرين الأول 1994 أصدرت وزارة المال أول سندات يوروبوندز (سندات دين بالعملات الأجنبية) بقيمة 400 مليون دولار وتستحق بعد ثلاث سنوات. وتلاها في تموز 1995 إصداراًثان من هذه السندات بقيمة 300 مليون دولار تستحق بعد خمس سنوات... ثم كرّت سبحة إصدارات اليوروبوندز وكان آخرها في شباط 2015 بقيمة 2.2 مليار دولار، لتصبح محفظة هذه السندات توازي 26 مليار دولار، او ما نسبته 37% من الدين العام المصرح عنه رسميا (والبالغ نحو 67 مليار دولار ).
الإصدار الأخير جاء في إطار استراتيجية إدارة الدين العام، التي كشفت عنها وزارة المال في أيار 2014، والتي توصي بـ«زيادة الاعتماد على الاقتراض بالعملات الأجنبية خلال الأعوام 2014 – 2016 لتغطّي بشكل أساسي استحقاقات أصل الدين والفوائد بالعملات الأجنبية، ما يعني أنّ على الحكومة زيادة سقف الاقتراض بالعملات الأجنبية ليسمح باقتراض ما نسبته 30% سنوياً بالعملات الأجنبية».
هذه الاستراتيجية تستند إلى واقع أن «نصف الدين العام في عام 2007 كان بالعملات الأجنبية ونصفه الثاني كان بالعملة المحلية، لكن حصّة العملات الأجنبية من الدين انخفضت إلى 40% في عام 2013». وبالتالي فإن الهدف من التوصية استعادة التوزيع الذي كان عليه الدين العام في عام 2007 أي مناصفة بين العملات الأجنبية والليرة اللبنانية.
إذاً، تبدو استراتيجية الدين العام كأنها تتعاطى مع تغيّرات «غير مرغوب فيها» في السياسات النقدية والمالية التي أُرسيت خلال العقدين الأخيرين، أي منذ أول إصدار لسندات يوروبوندز في عام 1994. يومها «تبيّن أن هناك حاجة ملّحة لاستقطاب الدولارات من أجل تمويل عجز الميزان الخارجي (صافي حركة الأموال والسلع والخدمات الواردة والخارجة من لبنان)، إذ أصبحت أداة الاستقطاب السابقة، أي إغراء أصحاب الدولارات بتحويل أموالهم إلى لبنان ثم توظيفها في سندات خزينة بالليرة اللبنانية للاستفادة من فوائد نسبتها لامست احيانا 40%، تهدّد بانهيار أسعار الصرف التي لم تكن قد تعافت بعد أزمة 1993. وبالتالي برز تيار يطالب بالاستدانة بالدولار مباشرة عبر سندات يوروبوندز بدلاً من استقطابها بواسطة الفوائد المرتفعة. روّج أصحاب هذا الرأي أن كلفة الاستدانة بالدولار هي أقل بكثير من كلفة الاستدانة بالليرة»، يقول شربل نحاس.

فخّ الاستدانة بالدولار

هكذا خرج لبنان من فخّ الفوائد الباهظة التي أعادت تجميع الثروة وتركيزها بيد فئة قليلة من أصحاب المصالح السياسية والمصرفية، ووقعوا في فخّ الاستدانة بالدولار. فعند أول إصدار يوروبوندز انقسمت المصارف اللبنانية بين مشارك وممتنع. الممتنعون كانوا يرون في الاستدانة بالدولار مخاطر كبيرة نظراً إلى عجز الدولة عن سداد قيمة سندات اليوروبوندز، إلا من خلال استدانة المزيد من الدولارات، وبالتالي دخولها في دوامة لا متناهية من الاستدانة بالعملة الاجنبية والتي لا يمكن سدادها.

نحاس: اي ضعف في أي من الحلقات سيؤدي إلى نتائج كارثية

وبالتالي، «لو كان اقتصاد لبنان قادراً على استقطاب دولارات كافية مقابل تصدير السلع أو الخدمات... لما احتاجت الدولة إلى الاستدانة بالعملات إلا بحدود ضيّقة جداً ومحدّدة (على سبيل المثال إن البنك الدولي لا يقرض إلا بالدولار)»، وفق شروحات نحاس. لذلك، فإن المصارف الأجنبية العاملة في لبنان أو تلك التي تملك حصصاً في مصارف لبنانية، وافقت على المشاركة في الإصدارات بشرط تكوين مؤونات في ميزانياتها مقابل محفظة اكتتاباتها من اليوروبوندز. والمؤونة تعني أن للمصرف شكوكاً في استرداد المبالغ الموظّفة في اليوروبوندز.
خطوة المصارف جاءت رغم حصولها على ضمانة كبرى من الدولة اللبنانية. فبحسب نحاس إن «كل عقود سندات اليوروبوندز تتضمن منح الدائنين حق المراجعة أمام محاكم نيويورك بشأن تحصيل أموالها. وهذا ما يجعل نسبة المخاطر مرتفعة كثيراً على دولة تستدين بالدولار لكن ليس لديها موارد أو اقتصاد منتج يوفّر لها حاجتها من العملات الأجنبية سواء من خلال تصدير السلع او الخدمات أو الموارد الطبيعية».

أدوات إضافية

طبعاً ليست سندات اليوروبوندز هي الركن الوحيد لـ»نموذج الاستدانة بالدولار»، فقد كان مصرف لبنان يستدين الدولارات من خلال إصدار شهادات إيداع بالدولار. هذه الشهادات لا تختلف كثيراً عن سندات اليوروبوندز سوى في أن الدولارات تصبّ مباشرة لدى مصرف لبنان بدلاً من أن تدخل إليه من بوابة وزارة المال. فعلى سبيل المثال، عمد مصرف لبنان الى اصدار شهادات إيداع بقيمة ملياري دولار في نيسان 2005 لتعزيز احتياطاته التي تدهورت بفعل تداعيات اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط 2005. الفائدة السنوية على هذه الشهادات تزيد عن 10% وأجلها يستحق بعد 10 سنوات، أي في نيسان 2015.
ومن «محاسن» الصدف لدى «النموذج» الذي استأثر بحفلات التبجيل والتقديس على مدى 20 عاماً، أن لديه حاجة للاستدانة بالدولار في عام 2015. مصدر الحاجة هو خدمة فوائد الدين العام المقوّم بالدولار، وسداد قيمة المشتريات من المحروقات... التقديرات كانت تشير إلى أن أول إصدار يوروبوندز في 2015 يجب ألا يقل عن مليار دولار، لكن تبيّن لوزارة المال أنه يمكن استقطاب مبالغ أكبر بعدما قرّر مصرف لبنان أن يسيّل شهادات الإيداع التي تستحق في نيسان 2015 قبل انتهاء أجلها وبربح لحامليها.
ويؤكد مصرفيون أن الربح المباشر الذي حققته المصارف من كل شهادة إيداع بقيمة 100 دولار جرى تسييلها هو ثلاثة دولارات، أي أرباح إجمالية تبلغ 60 مليون دولار. إلا أن «هندسة» هذا الأمر لا تكمن في تربيح المصارف حصراً، فالمبالغ التي سيّلها مصرف لبنان للمصارف وظّفت في غالبيتها بسندات اليوروبوندز، فضلا عن مصادر اخرى محلية وخارجية، أي إن كل المبالغ ستصبّ عاجلاً أم آجلاً في احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية عن طريق ودائع لديه او شهادت إيداع أو أي من الأدوات المالية الأخرى لتعيد إنتاج «الثقة». كذلك استفادت وزارة المال من هذه الدولارات لتغطية حاجات الدولة التمويلية، واستفادت منها المصارف لتعزيز أرباحها الريعية.

إعادة إنتاج

إذاً، تأتي «الثقة» على رأس هذا «النموذج» ومن ضمن مجموعة حلقات مترابطة. «اي ضعف في أي من الحلقات سيؤدي إلى نتائج كارثية. فهذه الثقة تتغذى من نفسها، أي إننا نستدين بالعملات الأجنبية لنموّل حاجاتنا ونعزّز احتياطاتنا في مواجهة الأزمات، وهو الامر الذي نخلق منه الثقة التي تسمح لنا بالاستدانة مجدداً لنعيد تكرار المشهد مع حجم استدانة أكبر ودين أعلى...». وفق نحاس.
يرفض الوزير السابق استنتاج ما سيحصل لاحقاً في حال انكسار أي حلقة من الحلقات، لكن النتيجة واضحة، فالحلقات هشّة جداً ويمكن أن تنكسر في أي لحظة وتولّد انهياراً هائلاً. يعلّق احد المطلعين على هذه النتيجة بالإشارة إلى ان المستفيدين من انكسار الحلقات أو الانهيار، هم أنفسهم أصحاب المصالح والنفوذ (يقدّر عددهم بنحو 5000 عائلة في لبنان) الذين استفادوا من إنشاء الحلقات وخلق الثقة وضاربوا على الفوائد وأسعار الصرف لتحقيق أرباحاً هائلة، وهم أنفسهم سيكونون المستفيدين من اي انهيار يحصل يوماً ما. أما المتضررون، فعلى كثرتهم من الطبقات الوسطى والفقيرة فسيكونون هم أنفسهم أيضاً.