لا أحد يريد أن يسأل حاكم مصرف لبنان عمّا يفعله. لا حاجة إلى التدقيق، ولو قليلاً، في كل ما يقوله أو يعلنه أو يتخذه من قرارات وإجراءات وخيارات. الكل يسلّم بأن رياض سلامة يؤدّي فروضه المطلوبة كمدير «بنك الدولة» ومسؤول عن ممارسة سلطتها وسيادتها على النقد وحركة انتقال الاموال والمصارف وأسواق المال. حتى المعترضون والمتضررون من النموذج الاقتصادي القائم يجدون له المبررات أو الاسباب التخفيفية. يرددون العبارة السحرية: أي حاكم للبنك المركزي في لبنان سيفعل ما يفعله رياض سلامة، ولكن (ربما) بجدارة أقل أو أكثر! ما هيدا لبنان.هل هذا صحيح؟

لم يعد رياض سلامة حاكماً لبنك الدولة فحسب، بل تحوّل الى حاكم «دولة البنك»، بكل ما يعنيه هذا التشبيه. «هيدا اللبنان» أتاح له ذلك، بل إن المصالح الراسخة، التي تتغذى من تهشيم الوجه الديمقراطي للدولة في لبنان (مهما كان) وتبتز مشروعيتها (مهما كانت)، شجعته على ذلك، ودفعته دفعاً اليه في أحيان كثيرة. فبعد 22 عاماً من سطوة السياسات النقدية وأهدافها وأدواتها، أصبح الاقتصاد اللبناني (كلّه) والمصالح الكامنة فيه (كلّها) تحت إدارة مصرف لبنان المركزية. ليس المقصود هنا فقط الادارة المباشرة لثروات طائلة تقدّر بأكثر من 180 مليار دولار موجودة لدى المصارف والمؤسسات المالية، بل أيضاً (وهو الأهم) إدارة الدولة نفسها وماليتها ومديونيتها العامة وتجنيد المجتمع عبرها في خدمة هذه الثروات وإرساء النموذج التي يناسبها على كل الصعد: السياسية والمالية والنقدية والثقافية.
ليس هناك حاجة الى أدلّة كثيرة. منذ أيام قليلة أعلن سلامة بنفسه أن مصرف لبنان يأخذ دور الدولة في ظل تغييبها. قال في افتتاح مؤتمر اتحاد غرف التجارة العربية (الاثنين 23 آذار 2015) «إن مصرف لبنان يقوم بمبادرات حساسة من أجل تعزيز الطلب الداخلي والإبقاء على نمو اقتصادي إيجابي»، أي إنه يقوم بما يُفترض أن تقوم به الموازنة العامة والسياسات المالية والضريبية والاقتصادية الى جانب السياسات النقدية. ولكن، بمعنى ما، قصد سلامة أن يطمئن الحاضرين من أصحاب الرساميل (والسياسيين) إلى أنه لا داعي للقلق من عدم وجود الموازنة العامّة للدولة منذ أكثر من 10 سنوات، فما يحتاجون اليه من الدولة في ظل النموذج القائم يعمل هو على توفيره بتركيز أكبر وتوجيه أشد. شرح سلامة أن «الرزم التحفيزية التي أطلقناها (مصرف لبنان) ما بين عامي 2013 و2015 تقارب 4 مليارات دولار. وكانت لهذه الرزم التحفيزية آثارها على النمو الاقتصادي، إذ إنها ساهمت بأكثر من 50% من النمو المحقق خلال هذه الأعوام». وتابع «إن مبادرتنا لدعم اقتصاد المعرفة في لبنان بدأت تعطي نتائجها من حيث توظيف الأموال من قبل المصارف في هذا القطاع. وقد أصبح لدى لبنان (المصارف) إمكانيات تساوي 400 مليون دولار يمكن استثمارها في هذا القطاع، وقد موّلت المصارف صناديق استثمار وشركات ناشئة بما يقارب 200 مليون دولار»، ليخلص في النهاية الى تحديد مستقبل «اللبنانيين» نيابة عنهم بإعلانه أن «مبادراته الحساسة» تقوم على تحقيق هدف: «إن مستقبل لبنان الاقتصادي سيرتكز إلى حدّ كبير على قطاع اقتصاد المعرفة، فضلاً عن القطاع المالي وقطاع الغاز والنفط»، أي إن الخيار هو الإمعان في خدمة الريع على حساب الانتاج وحاجات السكان وانتظاراتهم على صعد العمل والدخل والسكن والصحة... ألا يستحق ذلك أي سجال؟
«المبادرات الحساسة» التي أشار اليها سلامة هي تسليفات قدّمها الى المصارف بفائدة 1% لتعيد ضخها بفائدة تصل الى أكثر من 5% في دعم الاستهلاك وتجارة الاراضي عبر القروض السكنية والشخصية، التي باتت تساوي نحو 17 مليار دولار من مجمل التسليفات المصرفية للاقتصاد (نحو 51 مليار دولار) وتساهم في منع تراجع الاسعار والارباح ومنع إفلاس بعض زبائن المصارف من التجار والمقاولين... هذه «المبادرات»، الى جانب إصدارات سندات الدين بحجة تمويل عجز الخزينة العامة وشهادات الايداع بحجة امتصاص السيولة، هي التي تؤمن ريوعاً سنوية للمصارف تتجاوز فعلياً ملياري دولار كأرباح معلنة، وتغذي المضاربات على أسعار الاراضي، التي يمكن استنتاج حجمها وريوعها من قيمة البيوعات العقارية المسجّلة سنوياً، والتي تقدّر بنحو 10 مليارات دولار، فضلاً عن حماية ريوع الاحتكارات التجارية، التي قدّرها البنك الدولي في عام 2006 بنحو 18% من مجمل الناتج المحلي، أي نحو 8 مليارات سنوياً.