منذ سنوات، سخّرت الدولة جهودها لتروّج أهمية السياحة التجميلية في لبنان والمستوى المتقدّم الذي بلغته. غزت إعلانات مراكز التجميل غير المرخصة التلفزيونات ولوحات الإعلانات وظهرت عروضات وحسومات على عمليات جراحية طبية بشكل غريب: «شفط دهون من دون جراحة!»، «زرع شعر بأسعار تشجيعية»، «بوتوكس بـ 100$». مخالفة القانون كانت تجرى علناً والدولة تستمر في تشجيعها تماشياً مع موجة التجميل العالمية.
دخل «خبراء» التجميل عالم البرامج التلفزيونية، بدأت جاين نصار تظهر على شاشة تلفزيون «المستقبل» في «عالم الصباح»، وكرّت السبحة. مع ازدهار السوق الاستهلاكية التجميلية ركبت المصارف الموجة فأعلن فرست ناشونال بنك عام 2007 «إطلاق قرض جديد هو الأول من نوعه في لبنان والشرق الأوسط لتمويل عمليات التجميل على أنواعها تحت شعار مغر وخادع: قرض التجميل بدون دفعة أولى، بدون ضمانات ومع موافقة سريعة». راكمت هذه المراكز مبالغ طائلة طوال السنوات الماضية من دون أن يراقب أحد عملها أو الآلات والمنتجات التي تستخدمها.
في 18 تشرين الثاني 2014، أطلّ وزير الصحة وائل أبو فاعور ليعلن قرار إقفال 96 مركز تجميل غير مرخص في إطار حملته الشاملة. أعاد الوزير إحياء المرسوم الاشتراعي رقم 9827 الصادر عام 1962 والمتعلق بتنظيم مهنة التجميل لجهة فرض الحصول على التراخيص القانونية لمزاولة مهنة التجميل ولفتح واستثمار مراكز التجميل، وقرر تطبيق التعميم رقم 41 الصادر عام 2013. صُدم الجميع من نتائج الفوضى السائدة في هذا المجال. تبين أن الضحايا كثيرات... فأين كانت الدولة سابقاً؟ عرض الوزير صوراً مقززة لشفاه معبأة بزيت سمك، حروق جراء سوء استخدام تقنية اللايزر وتشوهات جلدية خطيرة. فهمنا من كلام الوزير أن هناك مراكز تجميل وماكياج تجري عمليات جراحية، هناك شقق تحوّلت إلى مراكز وهناك أشخاص لا يملكون مؤهلات علمية يقومون بحقن النساء بمواد قد تكون خطيرة.
اقتصر الأمر على الـ 96 مركزاً وغاب الملف عن الأنظار من دون أن يعلم أحد حجم هذه الظاهرة الخطرة.

34 مركزاً مرخصاً فقط!

ما تعرفه الوزارة اليوم، بعد الحملة، هو أن هناك 34 مركز تجميل مرخص فقط، و136 أخصائية تجميل يملكن إذن مزاولة مهنة، وفق ما يعلنه رئيس قسم المهن الطبية في الوزارة أنطوان رومانوس. المسح الأولي أظهر وجود 92 مركزاً غير مرخص، وستصدر قريباً نتائج المسح الثاني. لا يُعطي رومانوس رقماً محدداً للمراكز غير المرخصة نظراً إلى صعوبة حصرها لكنّه يقدّر وجود 500 مركز غير مرخص بالحد الأدنى. أرقام نقابة خبراء وأصحاب مراكز التجميل، التي ما زالت قيد التأسيس، تشير إلى انتشار كبير إذ يوجد 3500 مركز و15 الف عاملة تملك 19 منهنّ (قبل الحملة) فقط إذن مزاولة مهنة التجميل. واستند إحصاء النقابة الى اللوائح المقدّمة من شركات توزيع المنتجات والمعارض المختصة بالتجميل.
يشرح رومانوس الفرق بين التجميل الطبي والتجميل العادي، فالأخير يندرج في إطار التزيين الذي يشمل الماكياج، العناية بالبشرة، تقليم الأظافر… هذا النوع من التجميل يتطلّب شهادة بمستوى مهني: بريفيه مهنية أو بكالوريا فنية. أمّا التجميل الطبي فلا يقوم به سوى أطباء اختصاصيين بالأمراض الجلدية وجراحة التجميل وقد حددّ التعميم رقم 41 المهام التي يشملها بزراعة الشعر، حقن الجلد بمواد تجميل، استخدام الليزر، شد الجلد، التقشير الكيميائي غير السطحي وتحليل الدهون.

شجعت الدولة فوضى
«سياحة التجميل» والآن تسعى إلى شرعنتها

هكذا إذاً مُنعت مراكز التجميل العادي (نظرياً) من ممارسة أي من هذه المهام التي تعتمد عليها بشكل كبير، تحت طائلة المحاسبة. بقي التعميم «غير معمّم» وتابعت جميع المراكز تجاوزاتها إلى أن بدأت حملة أبو فاعور. يُعلن رومانوس أنّ المسح أظهر 5 فئات من مراكز التجميل: مراكز تجميل مرخصة تمارس التجميل العادي، مراكز تجميل غير مرخصة تمارس التجميل العادي، مراكز تجميل عادي مرخصة تمارس التجميل الطبي، مراكز تجميل غير مرخصة تمارس التجميل الطبي وأخيراً عيادات أطباء تمارس التجميل الطبي. مشروع قانون «تنظيم تراخيص مراكز التجميل الطبية» الموجود حالياً في اللجان النيابية يحددّ مهام مراكز التجميل الطبية المشابهة لما ورد في التعميم 41، وينظّم ادارة هذه المراكز فيحصرها بأطباء الجلد والتجميل. أمّا رخصة فتح مركز طبي فلا تُعطى سوى لطبيب، او مستشفى خاص متعاقد مع طبيب مرخص له ادارة مركز تجميل طبي أو شركة أطباء. المادة 13 من القانون تُعطي المراكز القائمة مهلة 3 أشهر لتسوية أوضاعها. عدنا هنا إلى حلقة التسويات الدائمة التي تقوم بها الدولة لإرضاء قوى الأمر الواقع التي تشكّل جزءاً كبيراً من السلطة. تحت عنوان «التنظيم»، يبحث المجلس النيابي اليوم صيغة لقوننة المراكز التي تمارس التجميل الطبي بشكل مخالف بعد أن أصبح عددها هائلاً. السؤال المطروح هو: هل يجب تشريع هذه المراكز أم إعادة العمل الجراحي الطبي إلى مكانه الأساسي أي المراكز الطبية والمستشفيات؟

شبكات المصالح تتصارع

بانتظار إقرار القانون، أعلن أبو فاعور أن ملفات مراكز التجميل الطبي ستُدرس ضمن شروط محددة أبرزها وجود عقد موقع مع طبيب اختصاصي في الأمراض الجلدية أو في الجراحة التجميلية شرط تفرغ الطبيب لمزاولة هذه الأعمال الطبية من دون ان يكون له الحق في فتح عيادة خاصة أخرى. شكّل هذا القرار «فوزاً» ساحقاً للأطباء وتحديداً أطباء الجلد. تسوية الأوضاع التي يكثر الحديث عنها في الوزارة تكون عبر أمرين: إمّا الامتناع عن ممارسة التجميل الطبي والحصول على رخصة تجميل عادي وإذن مزاولة مهنة، أو التعاقد مع طبيب جلد أو تجميل بدوام كامل. أعاد هذا الأمر إلى الأذهان ما يحصل في قطاع الصيدلة من «تأجير» للشهادات، فهل تلتزم المراكز بوجود طبيب دائم؟ يؤكد رومانوس أنّ «الأطباء المراقبين يقومون بعمليات كشف دائمة على المراكز للتأكد من وجود طبيب».
صراع مصالح عنيف يجري في قضية مراكز التجميل. لا شكّ أنّ هذا القطاع غير منظّم وفيه الكثير من التجاوزات الخطرة التي يجب وضع حد لها، إلّا أنّ المحفّز الأول لتنظيمه والحد من الفوضى القائمة فيه هو الضغط الذي مارسته الجمعية اللبنانية لأطباء الأمراض الجلدية على وزارة الصحة. فالتعميم رقم 41 المتعلق بتنظيم ممارسة العلاجات الجلدية وحصرها بالأطباء، أتى بناءً على توصية صريحة من الجمعية وموافقة مجلس نقابة الأطباء التي كشف رئيسها سابقاً لـ»الاخبار» أنّ طلب إغلاق مراكز التجميل غير القانونية قدّمته النقابة إلى وزارة الصحة. يحتاج أطباء الجلد إلى وضع حدّ للمنافسة التي خلقتها هذه المراكز حفاظاً على مصالحهم. في المقابل، يظهر الطرف الآخر المؤلّف من أصحاب مراكز التجميل وسلسلة المصالح الملحقة بهم التي تشمل مستوردي الآلات والمنتجات، شركات الأدوية، مصانع مساحيق التجميل، شركات الإعلانات، معاهد تعليم التزيين والتجميل لنصل إلى وسائل الإعلام التي يعتمد جزء كبير من إعلاناتها على هذه المراكز وأبرز الأمثلة هو تلفزيون المستقبل ومركز جاين نصار.
يرى رئيس الجمعية اللبنانية لجراحة التجميل والترميم الدكتور جورج غنيمي أنّه من «حق الأطباء الدفاع عن صحة المواطن». يؤكد أن الإعلانات التي تقوم بها هذه المراكز كاذبة «لا يوجد زرع شعر من دون جراحة، ولا يوجد شفط دهون من دون جراحة. إنهم يكذبون على الناس». يتحدث عن مسألة أثارت اعتراض الكثيرين هي حصر استخدام تقنية الليزر بالأطباء، «معظم إعلانات المراكز تعلن إزالة الشعر في جلستين وبعد ذلك جلسات مجانية، لا يمكن إطلاقاً إزالة شعر اللبنانيين في أقل من 8 جلسات لأن منابت الشعر وجينات تكوين الشعر لديهم مختلفة عن الأجانب. تلجأ بعض الدكاكين إلى تقوية الليزر ما يؤدي الى حروق».
تبغي هذه المراكز، برأي غنيمي، «التسويق فقط وهذا واضح من حجم الإعلانات. يحضرون منتجات من الخارج من دون التأكد من إمكانية أن تكون لها مضاعفات خطيرة وعند اقتراب مهلة انتهاء صلاحيتها تبدأ العروض عليها». يتمنى غنيمي أن يُقرّ القانون إلا أنه لا ينكر مخاوفه «هناك حمايات سياسية كبيرة لهذه المراكز وهناك حمايات إعلامية- سياسية يمكن أن تمنع إقرار القانون».
لنقابة خبراء وأصحاب مراكز التجميل (التي لم تحصل على ترخيص تأسيسها الى اليوم) ملاحظاتها على القانون، إلا أن محامي النقابة أنطوان طعمة يعتقد أن «التأخر في إعطاء ترخيص للنقابة يدخل ضمن الضغوطات التي تمارسها وزارة الصحة على وزير العمل لتمرير القانون من دون أن يكون للنقابة أي دور ومن دون العودة إلى رأي شريحة كبيرة من أصحاب المهنة». أبرز ملاحظات النقابة على قرار الوزير يتعلق بأمرين أساسيين. أولاً ضرورة وجود طبيب بدوام كامل إذ يسبب هذا أعباء مالية على المراكز. تقترح النقابة تحديد أيام معينة للقيام بالمهام التي تتطلب وجود طبيب مثل ما يحصل في المستشفيات. يقول طعمة إن هناك أطباء طلبوا مبالغ مرتفعة جداً ليحضروا يومياً إلى المركز. الملاحظة الثانية تتعلق بضرورة تعديل مرسوم عام 1962 الذي يحدّد مستوى مهني لمزاولة المهنة. يقول طعمة: «ما كان جائزاً عام 1962 لم يعد جائزاً عام 2015، تطورت هذه المهنة كثيراً منذ 50 عاماً». يؤكد محامي النقابة أنّ «تنظيم المهنة أمر أساسي وضروري، والنقابة ترفض إطلاقاً القيام بعمليات جراحية داخل المراكز. نحن مع العمليات السطحية التي تتعامل مع الجلد بشكل تجميلي ناعم كالحقن والليزر».