صنعاء | ليس ضحايا الحروب من الأموات فقط. تترك الحروب وراءها ضحايا أحياء، لكنهم غير معلومين ولا يطاولهم العدّ. العدوان السعودي على اليمن لا يقضي فقط على البنية التحتية في البلاد، ولا يزهق أرواح المدنيين فحسب، هو كذلك يفتح الباب أمام أزمات جديدة في بلدٍ من الأشدّ فقراً في العالم، منها بطالة اليمنيين العاملين بالأجر اليومي.
يقول أحمد حجيري (40 عاماً) المنحدر من إحدى قرى الحديدة الساحليّة (غربي صنعاء)، إن عمله فنّياً يعمل بمادة الحديد الداخلة في أعمال الإنشاءات البنائية، قد تعرّض لاهتزاز وتقطع خلال الشهرين الماضيين. ولم يكن أحمد يحصل على عمل إلا بصعوبة شديدة، قبل أن يتوقف تماماً مع بداية العدوان السعودي: «لم يكن منطقياً أن يشتغل أصحاب العقارات في البناء بينما تقوم طائرات القوى الظالمة بقصفها للأماكن من دون تمييز»، يقول حجيري الذي يعيل أسرة من سبعة أبناء بالإضافة إلى والدته وزوجته، مشيراً إلى أنه لم يُرسل أي مبالغ إليهم طوال الفترة الماضية، وهم يعتمدون عليه في قيادة حياتهم.
حين أقرّ نظام الكفيل تغيرت معاملة السعوديين لليمنيين كليّاً

أمّا علي النويهي (60 عاماً) المقيم في منطقة قريبة من مقرّ الفرقة الأولى مدّرع التي تعرّضت لقصف هستيري ليلة السبت الماضي، بواسطة صواريخ «أرض ـ أرض» انطلقت للمرة الأولى في العدوان من بوارج راسية في البحر الأحمر، فيروي أنه كان قد افتتح حياته بتجربة اغتراب في أراضي المملكة، وهو لم يكمل العشرين من عمره حين تمكن من احتراف مهنة النجارة: «كان هذا النوع من العمل مطلوباً هناك في تلك الفترة قبل اجتياح ظاهرة الأثاث الجاهزة»، لكنه اضطر للعودة إلى اليمن بعد قرار السعودية طرد اليمنيين من أراضيها بعد غزو صدام حسين للكويت الذي أيده الرئيس السابق علي عبدالله صالح. حاول علي العودة إلى هناك بعد فترة قصيرة، لكنه لم يقدر على البقاء تحت سطوة نظام الكفيل الذي فُرض على اليمنيين، مؤكداً أن معاملة السعوديين قد تغيرت حينها بشكل صادم مع العمال اليمنيين. وبعد عودته إلى اليمن، نجح النويهي الذي يعيش بمفرده بلا عائلة في إعادة تأسيس حياته في صنعاء، متمكناً من تأسيس ورشة صغيرة منحته دخلاً جيداً، لكنّه الآن يعاني بشدة نتيجة توقف حركة العمل في العاصمة.
إلى جانب هؤلاء، يحضر نوع آخر من الضحايا الذين كانوا يعتاشون على وظائف ذات مردود مالي مرتفع، وذلك من خلال أعمالهم لدى منظمات دولية وسفارات إضافةً إلى عاملين في شركات نفطية بمختلف تدرجاتها. ومن المعلوم أن كل تلك الجهات قد أوقفت نشاطها في اليمن بشكل تدريجي، وصولاً إلى بداية عدوان التحالف السعودي على البلاد.
وتختلف درجات معاناة كل واحد من أولئك بحسب الجهة التي كان يعمل معها وشكل وضوابط عقد العمل الذي كان يربطهم بها. فالبعض منهم كان يعمل بعقد سنوي قابل للتجديد أو عبر عقود مؤقتة ربع سنوية كما تتضمن أنواع من الأشغال المرتبطة بحجم الإنتاج الصادر والحصول على نسبة من أرباحه. في هذا الإطار، يقول محمد العنسي (40 عاماً) وقد كان عاملاً في شركة تقود بتقديم الخدمات اليومية للشركات النفطية العاملة، إنه خسر دخله بشكل كلّي وعلى نحو تعسفي حيث لا يوجد قانون عمل داخلي يعمل بقوة على حماية مصالح أبناء البلد ولا يجبر الشركات التي يعملون فيها على صياغة عقود عمل تحمي حقوقهم. ومع أن عبد الله قال إنه حصل على عمل آخر مع مؤسسة محليّة، تبقى المشكلة أن دخله لا يوازي ربع المقابل الذي كان يأتيه من عمله السابق.
أمّا بالنسبة إلى السفارات، فهناك من اليمنيين من يعمل معها بعقود سنوية يُوقَّع عليها من خلال وزارة خارجية كل بلد، وهي تقدم رواتب مرتفعة بعكس العقود الداخلية التي تقلّ رواتبها عن الأولى. وقامت بعض السفارات بتقديم رواتب موظفيها اليمنيين بشكل مسبق لثلاثة أشهر مقبلة، على أن تبعث لهم بشكل دوري، وهناك سفارات لم تحدد بعد شكل تعاملها المقبل مع موظفيها ولم تقدم لهم أجوبة محددة.
في السياق نفسه، تأتي أيضاً معاناة نهى (35 عاماً) التي قررت إنهاء عقدها مع منظمة دولية شهيرة، وذلك بعدما حصلت على منحة دراسات عليا في إحدى الدول الأوروبية من طريق مسابقات تقدمها واحدة من تلك الدول وقد نجحت في اجتياز جزء من اختبارات إلزامية لنيل المنحة. لكن مع حصول العدوان السعودي أغلقت تلك السفارة أبوابها، ما عرقل إكمال نهى لما بقي من اختبارات المسابقة لتجد الشابة اليمنية نفسها في مواجهة مصير مجهول.