مثل أي قضية تهمّ جميع العرب، جاء العدوان البربري السعودي ــــ الأميركي على اليمن ليشكل عنصر اشتباك بين معسكرات عدة في العالم العربي. لندع جانباً ما يسمى «الأغلبية الصامتة»، غير الموجودة فعلياً، ولنرَ أمامنا معسكرين بارزين، يحظيان بدعم غالبية ساحقة من الجمهور.
هكذا هي الصورة من دون مجاملات، ومن دون أقنعة وقفازات. هكذا هي في ملف فلسطين، وفي ملف الحراك الشعبي العربي، وفي ملفات العراق وسوريا والبحرين وليبيا، وأيضاً في ملف اليمن. ومن غير المنطقي تجاهل أن هناك فريقاً ثالثاً، لكنه ـ بواقعية ـ محدود الحضور والتأثير. وربما يجب الإقرار بأن النقص في العدالة يحرم هذا الفريق أدوات التعبير عن نفسه بطريقة أكبر مما هي عليه اليوم.
لم يرد كثيرون النظر إلى المشهد السياسي والإعلامي العربي عشية اندلاع العدوان وغداته. وفي كل مرة، يخرج علينا من يتوقع أحداثاً لم تحصل يوماً، رافضاً التقديرات المنطقية والواقعية التي تشير إلى صدام حتمي بين المعسكرين، في كل مكان يكون جاهزاً للمنازلة. علماً بأن ما يميز اليمن عن غيره، هذه المرة، أن الجغرافيا لم تسعف حكومة آل سعود، الذين يقودون أكثر الأنظمة تأثيراً في حياة العرب اقتصادياً وسياسياً منذ تفرد الولايات المتحدة بإدارة قضايا العالم.
لما قرر آل سعود إلزام جميع الحلفاء بهذه المغامرة، كانوا يراهنون ـ ولا يزالون ـ على أن الانقسام السياسي القائم سيمدهم بالعون اللازم لتدمير اليمن وأهله. وهم، وإن اعتقدوا أن المهمة أسهل مما هو حاصل الآن، إلا أن قلقهم الأكبر كان، ليس في تراجع موجة التأييد التي رافقت الغارات الأولى، بل في عدم ترجمة الدعم الإعلامي لهم، دعماً عسكرياً مباشراً، من خلال إرسال قوات برية لحماية حدود مملكتهم، والدخول إلى أرض اليمن لإخضاع شعبه.

آل سعود، مثل إسرائيل، يرون
النار على أبوابهم، وهذا سبب
لمزيد من الإجرام والجنون!


مجريات ميدانية كثيرة تحصل، وسنشهد المزيد منها كل يوم. لكن ما يجب مناقشته، بدقة وصراحة، هو السلوك الإعلامي والسياسي للمعسكرين. وينبغي الإقرار بأن المحور الداعم لقوى اليمن المتصدية للعدوان، لا يملك القدرات ذاتها التي يملكها الغزاة. ويمكن، من خلال جردة بسيطة، تلمس أن غالبية وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في العالم العربي تقف إلى جانب العدوان، وأن أقلية تمتنع عن إطلاق موقف واضح، فيما تخوض فئة محدودة للغاية الحرب ضد إجرام آل سعود. وهذا ما ظهر في لبنان وفلسطين ومصر وتونس والمغرب والسودان إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي.
ومع ذلك، فإن لعنة سوريا، كما لعنة ليبيا، حيث الانهيار الإعلامي الكبير لهذه الدول والقوى والجهات، جعلها أقل حيلة في هذه المنازلة. فبدت غير قادرة على الفبركة والتخيل وتقديم الأوهام على أنها حقائق. وتحولت وسائل إعلام محور الغزاة إلى منبر لمؤتمرات صحافية للناطقين باسم الحرب. بينما بدا واضحاً أن الحفنة القليلة من الإعلام المقاوم صارت أكثر نفوذاً، وأكثر قدرة على التفاعل مع الأحداث. والأهم، أنها تخلت عن كل مهادنات لا معنى لها أمام الدماء، وصارت تقول الأشياء كما هي، وهو الذي جعل الغزاة لا يتحملون ما تقول، ولا حتى أصل وجودها. ولذلك، كان منطقياً توقّع الهجمة المستمرة والآخذة في التصاعد ضد منتقدي الحرب وضد من يدين إجرام الغزاة. ونحن أمام مرحلة جديدة، سنشهد معها لجوء الغزاة وأذنابهم إلى وسائل مختلفة لكمّ الأفواه.
في لبنان، لم يكتف سفير دولة العدوان العامل لدى آل سعود بإظهار غضبه إزاء ما تقوم به «الأخبار»، فقرر تجاوز كل عرف أو تقليد، ولو سخيفاً، وسارع إلى إعطاء الأمر بإطلاق المعركة لتحقيق هدف «وضع حد لهذه الصحيفة». وهو الأمر الذي ترجم بإعلانه تشكيل فريق قانوني (هو قال «قضائي»، ما يتناسب مع طريقة تفكيره في بلاده أو نظرته إلى الجسم القضائي في بلادنا)، ثم بحرب مفاجئة شنها «مجهولون» (أو هكذا يظنون هم أنفسهم) ضد موقع الجريدة الإلكتروني، وترافق ذلك مع نشاط رقابي مفاجئ من جانب إدارة مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الأمر لم يكن ليحقق نتائج أولية، ولا هو سيحقق نتائج نهائية. فكانت مقابلة السيد حسن نصرالله مع «الإخبارية السورية»، ونقل «تلفزيون لبنان» لها. هنا، أقام السفير إياه الدنيا ولم يقعدها، وشنّ حملة شاركه فيها حشد كبير من السياسيين والشخصيات الوزارية والنيابية لتوفير موقف رسمي من الحكومة اللبنانية. وبالطبع، كان وزير الإعلام عندنا، المكلف إدارة علاقات لبنان والتزاماته الدولية، حاضراً للاعتذار، وربما أكثر من ذلك لو تطلب الأمر. ثم وجد الرئيس سعد الحريري أن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع سبقه إلى إطلاق المواقف، فسارع إلى إصدار بيان فيه جملة واحدة مفيدة يقول فيها إنه مستعد للتضحية بالحوار مع حزب الله كرمى لعيون ولي نعمته. وإلى جانب هؤلاء، لم ينس وزير الاتصالات بطرس حرب لياقات المضيف، فأعرب أمام نظيره السعودي في بيروت عن «حزنه لأن هناك من ينتقد السعودية في لبنان».
مشكلة هؤلاء أنهم يتغنون بفرادة لبنان في الحرية والمبادرة والإعلام المستقل وبتنوعه السياسي والثقافي والحضاري، ويرفعون شعارات الحرية والسيادة والاستقلال في كل معركة أو حفلة خطابية. لكن، كلما خرج من بين اللبنانيين من يستعمل حقه ونصيبه من هذه الحرية والفرادة والتنوع، خرجوا ليعربوا عن استعدادهم للتخلي عنها كرمى لعيون أولياء أمورهم. وهكذا، يصبح حراماً نقد سياسات آل الحريري منذ عام 1992 حتى اليوم، ويصبح قليل الأخلاق من أراد مراقبة حجم نمو ثروات فريق 14 آذار منذ عام 1992 حتى اليوم، ويصبح عميلاً لخارج شيطاني إن هو رفع الصوت ضد أوصياء هؤلاء من الأميركيين والفرنسيين والسعوديين... ترى كيف كانت ستبدو ردة فعل هؤلاء، لو أن السفير السوري أو السفير الإيراني في لبنان، احتج على تناول قادة بلادهم ورموزهم من قبل سياسيي هذا الفريق وإعلامه؟
سنكون أمام المزيد من هذه الهلوسات في الفترة المقبلة، وربما نشهد اعتصامات وتظاهرات تؤيد قتل أهل اليمن، أو غزوات واعتداءات على كل من يعترض، أو حجباً للموازنة عن تلفزيون لبنان، لأنه قرر أن يكون متوازناً في تغطية أنشطة وخطب أفرقاء البلاد على اختلافهم. وفي انتظار أن يطلب أشرف ريفي من النيابة العامة التحرك لمنع تعكير صفو علاقات لبنان مع دول شقيقة، أو احتجاجاً على نقد ملوكهم، من الضروي التحدث مع الجمهور لا مع هؤلاء.
نعم، آل سعود يواجهون للمرة الأولى منذ استيلائهم على أرض الحجاز، ما تواجهه إسرائيل للمرة الأولى منذ اغتصابها أرض فلسطين. الطرفان حاولا، لعقود طويلة، وأنفقا مئات المليارات من الدولارات، لكي تبقى النار بعيدة عن حدود كيانيهما المصطنعين. ولكن حالنا اليوم يشي بتغييرات كبيرة، أبرزها أن أي معركة ستبدأ من حيث يعتقدون هم، واهمين، أنهم في أمان... وهذا سبب كافٍ ليس للهلوسة والهستيريا فقط، بل لمزيد من الإجرام والجنون!