كان ذلك قبل خمس سنوات، حين لم تعد رائحة النعناع الأخضر تفوح من «المسكبة» أمام خيمة المفقودين والمخفيين في حديقة جبران خليل جبران. هناك، أمام الخيمة التي بدأت تفقد أمهاتها واحدة تلو الأخرى، صارت المسكبة مداساً لأقدام تختصر الطريق، وصولاً إلى مبنى «الإسكوا».
في آخر مرّة، قبل تلك السنوات، زرعتها أوديت سالم نعناعاً وبطيخاً. كانت شديدة الحرص على مسكبتها. «تعشّبها» بيديها العاريتين. تنفض الغبار عن أوراق مزروعاتها. تسقيها بلطف، كما لو أنها تهتم بطفلٍ صغير. تشغل قلبها «في المكان الذي أنتظر فيه ريشار وكريستين». كان ذلك جوابها عندما يسألها الزائرون عن مسكبتها التي حرصت وداد حلواني ـ رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين ـ على وضعها في فيلمها القصير عن أوديت سالم «آخر صورة … هيّ وقاطعة». أوديت التي تقطّعت أنفاسها تحت عجلة إحدى السيارات، وهي تعبر من الخيمة نحو الضفة الأخرى من الطريق.
ربيع عام 2009، ماتت أوديت، حارسة خيمة أهالي المفقودين. بعدها، كرّت السبحة: مخايل عوض. أم علي جبر. موسى جدع. أم علي الموسوي. فاطمة بشاشة. وآخرون ماتوا بصمت.
اليوم، لم يعد يأتي إلى الخيمة إلا أخوات المفقودين والمخفيين، اللواتي أوصتهنّ أمهاتهنّ قبل أن يستسلمن للموت بألا يتركن أشقاءهن. هكذا، مثلاً، سنجد ماجدة بشاشة تنفّذ وصية والدتها بالحضور إلى الخيمة. أما الأمهات اللواتي لا يزلن على قيد الحياة، فقد تعبت أجسادهن من الحمل الثقيل، كما قلوبهنّ.
قد يقول قائل «هيدا حال بني آدم». هذا صحيح، وإن كان مؤلماً. أما في حالة هؤلاء، فالألم مضاعف. فعندما تموت أم مفقود، فذلك يعادل «موت قضية ابنها»، تقول حلواني. والألم مضاعف أيضاً، عندما تكون تلك الأم هي آخر فرد في العائلة التي انتهت إلى غير رجعة، وأنها ماتت ولم تترك ما قد يساعد في كشف مصير ابنها. من هنا، تبدأ الحكاية. من «الشيء» الذي قد يساعد في كشف مصير الابن بعد موت الوالدين. هذا الشيء الذي يناضل أهالي المخطوفين والمفقودين لإجبار دولتهم على فعله: إنشاء بنك فحص الحمض النووي (دي إن إي) لحفظ عينات الحمض النووي العائدة للأهالي من أجل تسهيل «المهمة المتعلّقة بتحديد هوية الرفات لمن يعود»، تشير حلواني.

يتوقع أن يحال
مشروع القانون على الهيئة العامة في أوّل جلسة ستعقد

لكن ذلك لم يحصل، إلا في حالة أوديت سالم. ربما، لفظاعة الموت الحاصل، خصوصاً أنها الأخيرة التي كانت قد بقيت من عائلتها، والتي من دون حمضها النووي يضيع رفات ولديها إلى الأبد. لذلك، عمل الأهالي ـ بمبادرة فردية وبالتعاون مع البعثة الدولية للصليب الأحمر والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ـ لأخذ عينات الحمض النووي من سالم. وهي المودعة اليوم في بنك الـ»دي إن إي» في «مختبر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي»، تضيف حلواني.
وحدها، بقي منها الأثر. أما مخايل عوض، فقد انسحب بصمت. لم يترك أثراً يكشف هوية ابنه جورج الذي سيبقى مفقوداً إلى الأبد. لماذا؟ لأن الدولة اللبنانية لم تجد الوقت الكافي للتوقيع على «مذكرة التفاهم بينها وبين اللجنة الدولية للصليب الأحمر للتعاون على جمع عينات الحمض النووي»، يقول غازي عاد، رئيس لجنة «سوليد». فمنذ منتصف عام 2012 والمذكرة في أدراج مجلس الوزراء، في الحفظ والصون، منعاً «لتخريب السلم الأهلي»، يتابع عاد. أما رئيس البعثة الدولية فيريزيو كاربوني، فيتوسّل حسن النيّة في الحديث عن المذكرة العالقة بربط التأخير بـ»تعقيد الوضع السياسي في السنتين الأخيرتين». وهنا، قد يصحّ التساؤل عن حسن النيّة في ما فعلته الدولة عندما قدّمت إلى الأهالي صندوقاً يتضمن «معلومات خاماً بقيت في مراحل التحقيق الأولى». فأين حسن النية هنا؟ وأين هي في ملخّص تقرير اللجنة التي كلّفت بالاستقصاء عن مصير المفقودين والمخفيين قسراً، والتي اكتفت بأرشفة شهادات الأهالي ولم تقم بالتحقيق مع أي من الجهات الخاطفة؟ وأين حسن النية في «تصنيف العظام التي وجدت في مقبرة في بلدة الشبانية على أنها عظام تيوس وليست لبني آدم، من دون عناء فحصها»، تسأل حلواني.
بالعودة إلى البنك «الذي لم يضرب فيه ضربة واحدة»، بحسب حلواني، أين يكمن حسن النية؟ فبحسب الأهالي «ليس مكلفاً هذا الأمر، فالبعثة الدولية صرّحت بأنها هي التي ستساعد في كلفة هذه الخطوة، كما أوردت في مذكرة التفاهم أنها ستساعد في جمع العينات البيولوجية (اللعاب) الذي يمكن حفظه لحوالى عشر سنوات، تمهيداً لاختبار «دي إن إي»، ثم إن هناك مختبراً للفحص مجهّزاً لدى قوى الأمنم الداخلي»، تتابع حلواني.
اللعاب. لا شيء أكثر من ذلك. يسخر الأهالي بالقول: الريق. البزاق. ماذا يمكن أن يكلّف هذا؟ «السلم الأهلي»، يقول أحدهم في الدولة المصون. ولكن، بحسب النائب غسان مخيبر، «ليس من المفترض أن يثير هذا البنك أي حساسية سياسية، فهو في النهاية بمثابة مكان لحفظ معلومات جينية لمطابقتها مع الرفات في وقتٍ لاحق». أمور «تقنية» بامتياز، وليست مسّاً بسلمٍ لم يعد موجوداً.
مع ذلك، يحسب النائب مخيبر أن ما يفترضه الأهالي ليس موجوداً، «فثمة مشروع قانون يقضي بإنشاء بنك معلومات «دي إن إي»، ولكنه ينحصر بمكافحة الجرائم، لذلك عملنا على إضافة بند يشير إلى موضوع حفظ العينات البيولوجية لأهالي المفقودين والمخفيين قسراً». وبحسب مخيبر، فقد أكمل هذا المشروع «برمته» على اللجان المختلفة، بما فيها لجنة الإدارة والعدل والصحة، وقد خرج منذ «ما يقارب شهراً من لجنة الداخلية والدفاع، وأتوقع أن يحال على الهيئة العامة في أوّل جلسة ستعقد». لم يبق إلا «الانتظار»، وفق مخيبر.
مع ذلك، لا يحسب مخيبر أهمية قصوى لهذا المشروع، إذ ثمة ما هو أكثر أهمية، «إقرار مشروع قانون الأشخاص المفقودين وضحايا الإخفاء القسري، إذ أحيل على لجنة حقوق الإنسان اقتراحا قانون، أوّلهما تقدمت به أنا والنائب زياد القادري، وثانيهما تقدّم به النائب حكمت ديب، وقد انتهينا منذ فترة وجيزة من دمج الاقتراحين، وقد طلبت من النائب ميشال موسى تحديد جلسة للجنة حقوق الإنسان لمناقشة مسوّدته». أما أبرز ميزات ذلك المشروع، فهي «إقرار حق الأهالي في معرفة مصير ذويهم وإيراد تعريف شامل وصحيح للمفقودين والمخفيين قسراً، وفق تعريفات الاتفاقات الدولية، ووضع آلية واضحة لنبش المقابر الجماعية، وأخيراً والأهم إنشاء الهيئة الوطنية لحل قضية المفقودين وضحايا الإخفاء القسري التي تتمتع باستقلالية وجدّية وصلاحية واسعة، من ضمنها نبش المقابر». يستفيض مخيبر في شرح صلاحيات الهيئة «في جلاء الحقيقة وتجميع المعلومات الدقيقة من أصحابها. يعني مثلاً، شخص متل أسعد شفتري ما عندو الثقة يعطي معلومات هي بحوزتو لمين ما كان إلا للهيئة عندما تنشأ».
فلنعد إلى «الميزات» واحدة واحدة. ولنسأل: من سيكرّس حق الأهالي في المعرفة؟ «ميليشيات السلطة» ـ تعبير الأمهات المفجوعات؟ كيف سيكون التعريف شاملاً وواضحاً في دولة مقسومة فريقين؟ ومن سيقول إن هذه رفات «بني آدمين» وليس «تيوساً»... إن فتحت المقابر الجماعية؟ وأخيراً والأهم، هل ستنشأ الهيئة الوطنية المستقلة على «إيام» أسعد شفتري كي تكتمل توبته؟ فلنسأل الدولة.