قدّم تعيين الامين العام الجديد لمجلس الوزراء فؤاد فليفل، قبل اسبوعين، حجة لمعارضي تأجيل تسريح قائد الجيش العماد جان قهوجي لرفع نبرة المطالبة بتعيين قائد خلف، ومساواة هذا بذاك ما دام في وسع مجلس الوزراء الانعقاد، والتسمية بغالبية موصوفة.
لكن الامر ليس سيّانا في اي حال.
لا يعدو تعيين الامين العام لمجلس الوزراء كونه اجراء اداريا، اكثر منه مقاربة سياسية. كلا المنصبين غير متماثلين سوى في مرجعية التعيين والنصاب المطلوب. كما اختيار رئيس الجمهورية مديرا عاما لرئاسة الجمهورية محض شخصي كأحد معاونيه الاداريين البارزين، كذلك تعيين الامين العام لمجلس الوزراء يصطفيه رئيس الحكومة معاونا له. كلاهما لا يثير تعيينهما جدلا في مجلس الوزراء، ولا يتعاطى المجلس معه على انه في سياق تقاسم الحصص او املاء مراكز حيوية وحساسة يقتضي نصابا سياسيا مقدار النصاب الدستوري، شأن تعيين قائد الجيش. تاليا ليست موافقة مجلس الوزراء على تعيين كل منهما سوى شكلية. يحضر الامين العام لمجلس الوزراء الجلسات بصفته الموظف المؤتمن. يدوِّن المحاضر في السرايا كما لدى انعقاد المجلس في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية. يحضر ايضا المدير العام لرئاسة الجمهورية فيهما. الا ان الدور هو للامين العام للمجلس الذي يعدّ كذلك جدول الاعمال.
ومع ان تعيين قائد الجيش ظل لعقود خيارا حصريا لرئيس الجمهورية، شأن تسميته المدير العام للامن العام في ما مضى ومدير المخابرات في الجيش، الا انه امسى في ظل اتفاق الطائف خياراً سورياً اولاً، ثم اضحى بعد اتفاق الدوحة في صلب موازين القوى السياسية بما لا يتيح لاحد ــــ ولا رئيس الجمهورية خصوصا ــــ التفرد باختياره، او فرضه على مجلس الوزراء والافرقاء الآخرين. وهو ما حصل مع تعيين قهوجي اول قائد للجيش خارج النفوذ السوري، الا ان توافق الافرقاء ــــ لا اختيار الرئيس ــــ حسم تعيينه وان بالتصويت للمرة الاولى في تاريخ المؤسسة العسكرية.
وخلافا لما بات عليه تعيين المدير العام لقوى الامن الداخلي خياراً سنّياً محضاً يُرغم عليه الاطراف الآخرون، وكذلك تعيين المدير العام للامن العام خيارا شيعيا قاطعا، وتعيين رئيس الاركان خيارا درزيا يستأثر به النائب وليد جنبلاط صاحب الكلمة الفصل فيه منذ عام 1990، فقد المسيحيون، واخصهم رئيس الجمهورية، حق اختيار قائد الجيش الذي ينتمي الى طائفتهم على غرار اولئك، اذ يقع في منزلة مساوية وظيفيا واداريا ومرجعيا للمنصبين الآخرين. في سياق مماثل اضحى عليه منصب رئاسة الجمهورية.

خلافاً للسنّة
والشيعة والدروز، ليس لدى المسيحيين
ما يختارونه

منذ صُوّت على تعيين قهوجي عام 2008 صار اختيار قائد الجيش يتطلب توافقا عاما لا يكتفي بتحديد مواصفات الرجل، بل ايضا في المهمة المنوطة بالمؤسسة العسكرية في ظله كي توازن ــــ وهي تضطلع بالمسؤولية العسكرية ــــ بين الحسابات السياسية ومصالح الافرقاء وطريقة مقاربتهم دور الجيش. ذلك ما يعنيه دور قهوجي في الوقت الحاضر. يلتقي تيار المستقبل وحزب الله على دعم تأجيل تسريحه للمرة الثانية، اذ يجد كل منهما في دوره صمام امان له: يحمي ظهر حزب الله في البقاع فيما هو يقاتل في سوريا، ويحمي ظهر تيار المستقبل من فوضى تفشي التيارات السنّية المتطرفة في الشمال وعرسال. من جراء مراعاته الطرفين معا، على قدم المساواة، حمل الجيش منذ اكثر من ثمانية اشهر ولا يزال وزر ما يجري في عرسال وخصوصا خطف عسكرييه: مرة بسبب دعم حزب الله نظام الرئيس بشار الاسد، واخرى ثمن تضامن تيار المستقبل مع معارضي النظام مؤيدا «الثورة» السورية.
قيل الكثير، الصائب والملتبس والغامض وربما المغلوط، في هذا الدور المزدوج: امرار فرار مسلحي التنظيمات الارهابية من عرسال الى الجرود ما اتاح خطفهم العسكريين، وابقاء الحدود الشرقية مفتوحة تسهيلا لقرار المشاركة في الحرب السورية. قيل ايضا في معرض مناقشة ضباط كبار، على غرار اسلافهم، استعجال انتقال قهوجي الى قصر بعبدا: هذا عين وذاك عين.
لكن التمسك بتأجيل تسريح قائد الجيش يرتبط ايضا بملاحظات اخرى:
اولاها، ان الفريقين السنّي والشيعي ليسا جاهزين في الوقت الحاضر للتوافق على قائد للجيش وامرار تعيينه في مجلس الوزراء، قبل التيقن من مصير الاستحقاق الرئاسي في ضوء ازمات المنطقة. وهما بالتأكيد غير مستعجلين على انتخاب الرئيس حتى. لم يعد الترابط بين الرئيس والقائد حتميا بالقدر الذي كان عليه لعقود مضت. مارونيان فحسب. بيد ان الوظيفة والدور تصنعهما موازين القوى لا الصلاحيات ولا الإمرة. فكيف عندما يملك الفريقان السنّي والشيعي أدوات الحل والربط في الاستحقاقين على السواء؟
ثانيها، ابقاء قهوجي على رأس المؤسسة العسكرية يحيله «مسودة رئيس» محتملا، من دون ان يمتلك بالضرورة حظوظ الفوز. احد خيارات المناورة السياسية في الاشتباك الداخلي، وخصوصا في وجه ترشيح الرئيس ميشال عون على الاقل بالنسبة الى الفريق السنّي. واقع الامر ان الموقع ــــ لا الشخص ــــ يُستخدم في المعركة الرئاسية في سياق إعطاب المرشحين واحدا تلو آخر. في الغالب يبدو ترشيح قائد الجيش، على مرّ العهود الثلاثة المنصرمة على الاقل، كفيلا باقصاء المرشحين الآخرين بلا استثناء.