بعدما قدّم أمسيات كثيرة حول العالم ونال جوائز تقدير عدة، يقدّم عازف البيانو الكلاسيكي محمد شمس (الصورة) أمسية عزف منفرِد غداً في قاعة «كارنغي» (Carnegie Hall) في نيويورك. هذه المحطّة تعتبر مفصلاً مهمّاً في مسيرة الموسيقي المصري الشاب. الوصول إلى هذه القاعة المرموقة يُعتَبَر هدفاً صعب المنال لأي موسيقي محترف في العالم، وهذا ما تشرحه ببساطة تلك الطرفة الخاصة بالموسيقى (الكلاسيكية بشكل خاص)، التي يقال إنها حصلت فعلاً ذات يوم.
تقول الأسطورة: أراد أحدهم حضور أمسية في تلك القاعة، لكنّه ضلّ الطريق في شوارع نيويورك، فاستوقف رجلاً مسناً وسأله: «سيّدي، كيف أصل إلى قاعة كارنغي؟» أجابه العجوز الحكيم: «تَمَرَّن يا رجُل… تَمَرَّن»! بمعنى آخر، إن بلوغ هذه القاعة (شأنها شأن قاعات كثيرة في العالم) هو شهادة تقدير لأي موسيقي، وهذا ما يحقّقه محمد شمس غداً نتيجة ساعات التمرين والتعب والجهد والموهبة.
ولد محمد شمس عام 1984 ودرس البيانو في «كونسرفتوار القاهرة» وتخرّج منه بامتياز عام 2004. تابع دراسته في الولايات المتحدة الأميركية ثم في اسكتلنده قبل أن يعود إلى بلاد العم سام حيث يكمل حالياً مشواره في التعمّق بالبيانو. من أساتذه المرموقين نذكر عازف البيانو الشهير ستيفن أوزبورن الذي له تسجيلات مرجعية في الأعمال الروسية والفرنسية وغيرها. لكن، وكما لأي موسيقي، لمحمد شمس «أساتذة» من نوع آخر، ونقصد المؤلفين وعازفي البيانو الكبار (راحلين وحاليّين) الذين يقدّرهم أكثر من غيرهم. في مراسلة مع «الأخبار» يذكر شمس مؤلفيه المفضلين: باخ، رخمانينوف، بولنك، رافيل، تشايكوفسكي ومالر… ومن زملائه في العزف يذكر قطبَي المدرسة الروسية، الراحلَين ريختر وهوروفيتز، ورمزها المعاصر يفغيني كيسين (صاحب التصريحات الرديئة والجنسية الثالثة العدوّة المقيتة!)، وكبيرة نساء البيانو مارتا أرغيريتش، والصينية الشابة يوجا وانغ (من الأسماء التي احتضنها القائد الكبير كلاوديو آبادو قُبَيل رحيله) وغيرهم.
لم يصدر محمد شمس أي تسجيل (حيّ أو في الاستوديو) لغاية اليوم، وهذا غريب جداً نسبةً إلى عمره ومستوى أدائه، لكنّه «طبيعي» نسبةً إلى جنسيته. فهذه أزمة يعاني منها الموسيقيون الكلاسيكيون في البلدان العربية لأسباب عدة. الجمهور العريض غير مهتمّ بهذه الموسيقى، والمشكلة ليست فيه، بل بالإعلام الذي لا يفرد مساحةً ولو ضيقة للموسيقى الجّادة، وبالجهات الرسمية التي تغفل التوجيه الثقافي الشامل (موسيقى كلاسيكية وغيرها). هذه المشكلة تؤدّي بدورها إلى أخرى تكمن في تحاشي المنتجين والناشرين هذا النوع من «المغامرات». أما الجهات الغربية التي تهتم بالإصدارات الكلاسيكية، فللمشكلة معها في هذا السياق وجهان، واحد مقبول ويتمثّل في وفرة الموسيقيين المرموقين في البلدان التي تنشر هذه الموسيقى (تُعطى الأولويّة لهم بطبيعة الحال)، والثاني مقزّز ويكمن في عنصرية بعض الناشرين الكبار تجاه «الغريب» (إلا إذا كان يهودياً. في هذه الحالة تتغيّر معايير الاحتضان). وهنا يجب القول بتجرّد إن محمد شمس ليس عازفاً عظيماً ولا ظاهرة فريدة، رغم أن حكمنا لا يستند إلاّ إلى بضعة فيديوهات هاوية منشورة على يوتيوب. إنه ببساطة عازف مكتمل، محترف، يساوي المئات من عازفي البيانو المحترمين حول العالم، لكنه لا يتخطى (لغاية الآن) العمالقة، وهو يدرك هذه الحقائق بالتأكيد. أما المديح المبالغ فيه (الذي تمتهنه الصحافة، العربية بشكل خاص) فهو جريمة بحقّ هذا النوع من الفنّانين الذين حقّقوا الكثير ويبقى أمامهم الكثير. لكن هذا لا يعني عدم أهليّته الأكيدة وحقّه الطبيعي في إصدار تسجيلات توثّق جهوده وتوصلها إلى عشّاق السمع في العالم.
على برنامج محمد شمس لأمسيته الأولى في قاعة «كارنغي» أعمالٌ تدلّ على مستواه التقني الرفيع (خطّان تحت عبارة «التقني»). أما مستواه الأدائي (الإحساس والمقاربة الجديدة والفهم العميق والخاص والمتين للأعمال) فلا يمكن الكلام عنه إلاّ بعد الحفلة. حتى ريختر، عندما كان في عزّه متربعاً على القمة سوفياتياً وربّما عالمياً، وفي القاعة النيويوركية ذاتها، أخفق في بعض ما قدّم. وهذا الكلام قاله هو عن نفسه، وليس الصحافة الكذابة التي كالت له مدائح رأى أنه لا يستحقّها.
يجمع شمس في أمسيته بين الرومنطيقية الناعمة (مندلسون) والمضطربة (سوناتة البيانو الوحيدة والضخمة لفرانز لِيسْت) والانطباعية الفرنسية (عملان لموريس رافيل) والأميركي الحديث (إليوت كارتر) بالإضافة إلى عملٍ لمواطنه وأحد أشهر المؤلفين الكلاسيكيين المصريين، جمال عبد الرحيم (1924 - 1988).