تغيّرت السعودية كثيراً أم كنّا أغبياء لدرجة أنْ نصدق أنّها دولة عربية يحدوها الأمل بتحرير فلسطين؟ هل كانت مملكة خادم الحرمين ترى فلسطين جزءاً من أحلامها أم مجرد شعرة معاوية بينها وبين الفلسطينيين والعرب والمسلمين ريثما ينضج حل يريحها من عوارض الانفصام في المواقف ودعاوى إثبات النسب المحرجة؟ لا شيء غير عادي يستدعي تحوّلاً في السياسة الراكدة الرتيبة المملّة يغيّر قائمة أولوياتها، حتى لو برزت نهاية فلسطين أمامها جلية وحتمية! لا شيء يمكن أن ينقل المملكة من أجواء القهوة العربية الأصيلة إلى الثورة العربية الأصيلة. فهي ترى أنّ التقاليد التي سار عليها الأجداد والآباء والأحفاد مثالية بالكامل، ولا رغبة تعتريها بإلقاء أي حجر في بركة تحالفاتها وارتباطاتها الساكنة.
في الواقع، لم يكن المطلوب من السعودية يوماً أن تخوض حرباً معلنة ضد الصهاينة دفاعاً عن أخوة التراب والعقيدة والهوية الواحدة، بل أن تتعامل مع الخطر الصهيوني بشيء من الوعي والعقلانية والشهامة العربية. ولم يكن المطلوب أن يُعلن «العاهل الأكبر» يوماً للقدس على غرار ما قام به الإمام الخميني بإعلانه يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان يوماً للقدس العالمي، بل على أقل تقدير أن لا تتقدم أخبار مهرجان الجنادرية بطقوسه المغفلة، وسباقات الهجن الساذجة، واحتفالات العيد الوطني الفجّة، وتهتّكات الأمراء السافرة، على أخبار بلد يتبلل بكرةً وأصيلاً بالدم، ويتعرض لاضطهاد هو الأكثر شراسة في العصر الحديث.
القضية ليست قضية حوالات
بنكية بل حوالات سياسية لها طابع القيم والشرف
ولم يكن المطلوب أن تخرج التظاهرات في شوارع جدة والرياض تهتف لفلسطين ومقاوميها وشهدائها بل أن يُسمح لملايين الحجيج أن يفتحوا أكفّهم، مجرد أكفّهم، بالدعاء لأرض التين والزيتون والأنبياء! لا أملك نفسي عن التساؤل في مسائل لا حصر لها، لكن كيف يستطيع نظام أن يكون مكتمل العروبة أو تام الإسلام بلا فلسطين؟ كيف لمملكة فيها (مكة والمدينة) بمقدورها أن تنفي عن نفسها المسؤولية التاريخية والدينية؟ كيف لها أن تنام ملء جفونها ومئات الآلاف من الفلسطينيين يفترشون البؤس والشقاء والضياع في أقطار العرب؟ كيف لها أن ترعى عشرات القنوات التي تهذي شعراً هابطاً ورقصاً خليعاً ولا ترعى قناة واحدة تشير إلى خطر هذا النمو السرطاني الذي اسمه «إسرائيل» أو تعرّف أهل الحجاز ونجد بالبطولات التي حققها المقاومون الفلسطينيون منذ ثورة البراق عام 1929 إلى ثورة عز الدين القسّام عام 1936 مروراً بمحمد الدّرة ووصولاً إلى عملية البنيان المرصوص العام الفائت، لعل الغيرة والحمية تدّبان في العروق المتكلسة؟ كيف لها أن تنفق الأموال والمساعدات على بعض الفلسطينيين المستهترين المتبرعين بالتنازل عن حقوقهم وتعدم كل وسيلة عندما يتعلق الأمر بكيفية تعزيز الصمود الفلسطيني وتنمية قدراته لاسترداد أرضه؟
ومع ذلك، يصرّ السعوديون على تنزيه تاريخهم من الخيانة وهم من طرح الاعتراف بالعدو الإسرائيلي في قمتي فاس عام 1981 وبيروت عام 2000. هنا تذكرتُ قولاً لجورج أورويل لا يخلو من رمزية: «كل دعاية الحروب، كل الصراخ، الأكاذيب، الكراهية، تأتينا دائماً من أناس لا يقاتلون!».
حقاً ما الذي فعلته المملكة الثريّة للشعب الفلسطيني لسدّ رمقه، أو شدّ وحدته، أو تخفيف آلامه، أو فتح الدروب أمام المناضلين الفدائيين ليستنهضوا قواهم؟ ما هي السياسات التي انتهجتها والشعارات التي رفعتها كي نعرف أنّ في أعماقها ارتباطاً تاريخياً وقومياً ودينياً بالقضية الفلسطينية؟ ألم يكن الفلسطينيون بحاجة إلى الإمكانات السعودية الضخمة أم أنّ بنوك سويسرا أولى بالمعروف من مسحوقي جنين وعين الحلوة وصبرا وشاتيلا؟ ألم يكونوا بحاجة إلى النفط؟ أم أنّ النفط أعز وأغلى من الدم؟ ألم يكونوا بحاجة إلى معسكرات للتدريب أم أنّ صحراء الربع الخالي لا تتسع إلا لتكفيريين وانتحاريين ومعارضين (معتدلين) لتدمير العراق وسوريا وتقسيم اليمن؟
ووسط غمرة الأحداث التي مرّت على المنطقة وخصوصاً بعد زوال نظام صدام حسين خلتُ أنّ المملكة ستتوب عما فعلته من وضع العراق في مواجهة إيران، وستتورع مجدداً عن تقويض وحدة اليمن بالمال والسلاح والتحريض، وستمتنع عن صرف مليارات إضافية على (جهاديين) يحاربون بالمجان الإسلام ورسوله ورسالته كرمى لعيون الولايات المتحدة الأميركية حليفتها الأثيرة، وستتوجه لتعزيز الأمن القومي العربي بإحياء اتفاقية الدفاع المشترك، وستُسلّح الفلسطينيين لمواصلة مقاومتهم، وستحرص من خلال حسها السياسي وواقعها الجغرافي على إقامة أفضل العلاقات بين البلدان الإسلامية. لكن ما حصل هو عكس ذلك تماماً. دعمت اتفاقيات العار بين السلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية والعدو الإسرائيلي. باركت جهود الرئيس عرفات وبعده أبو مازن لإزالة كل أسباب العداوة التاريخية والدينية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. حاربت فصائل المقاومة الفلسطينية إعلامياً وسياسياً ومادياً. وجهت رياح سمومها تجاه حزب الله وحرّضت على نزع سلاحه وشاركت تمويلاً في القضاء عليه خلال عدوان تموز 2006. ساهمت في نشر الفوضى في العالم العربي وفتحت أبواب المنطقة أمام الجماعات المتطرفة وأدخلتها لعبة التوازن المذهبي لمنع إيران، بحسب زعمها، من التمدد. تم تدجين القضية الفلسطينية من البوابة المذهبية بعدما أُقفلت البوابات السياسية في وجهها ووجه الرعاة الغربيين الذين حاولوا تثبيت تسوية تذهب معها فلسطين إلى الأبد. هنا نشأ وضع جديد من التضليل، وتحولت إيران التي لم تبخل بقرش ولا سلاح ولا شعار إلى عدو العرب الأول، وبات التفاهم على طريقة «صديقي العزيز العظيم شيمون بيريز» من ضرورات الأحكام، حيث لـ»بندر» من المفتين ما عند «مرسي» ويزيد! لو قلنا إنّ إيران دعمت وما زالت الشعب الفلسطيني بكل ما هو متاح لقالوا إنّ ذلك ليس كرمى لفلسطين وإنّما لأنّ إيران راغبة بتوسيع امبراطوريتها الفارسية ونشر التشيّع. ولو قلنا إنّ السعودية باعت فلسطين وتنسّق أمنياً مع الصهاينة لقالوا: تهويمات واتهامات سخيفة وضرب بالرمل. وإذا قلتَ أين السعودية من الانتفاضات؟ أين هي مِن دعم الشعب أثناء العدوان على غزة على سبيل المثال ليستطيع الصمود؟ أين هي مما يحصل اليوم من تهويد واستيطان واستباحة وخطر وجودي يهدد آلاف الفلسطينيين بالاقتلاع من أرضهم؟ سيجيب أحدهم بأنها استقبلت عدداً من الجرحى وأرسلت بضع سيارات إسعاف، وستشارك في مؤتمرات دولية لتهدئة الأوضاع، وستشارك مع الجامعة العربية لرفع شكوى إلى مجلس الأمن! فماذا يمكنها أن تفعل أكثر من ذلك والقطاع محاصر من قبل المصريين لا السعوديين! هل هذا نوع من الكوميديا السوداء أم من الهوان الذي لا حدّ لبشاعته. هل نتذكر ويتذكر بعض العرب الأقحاح ما جرى خلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936-1939، إذ لم تتوقف المرحلة الأولى من الثورة الفلسطينية الكبرى والاضرابات التي طاولت معظم الأراضي الفلسطينية إلا في 12 تشرين الأول إثر نداء وجهه زعماء السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن لأهل فلسطين بـ»الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة في تحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم».
لسنا هنا لإجراء مفاضلة بين «العروبة السعودية» المتخاذلة وبين «الفارسية الإيرانية» المناصرة. ولكن لنؤكد القول على خطورة الموقف السعودي من القضية الفلسطينية ماضياً وحاضراً. انكشف كل شيء ولم تعد تنطلي على أحد قضية «حصة السعودية من الدعم العربي للفلسطينيين». القضية ليست قضية حوالات بنكية وإنما حوالات سياسية لها طابع القيم والشرف والدين، والحق الذي لا يمكن أن يضيع طالما وراءه فلسطيني واحد مطالب.
وفي ظل المتغيرات التاريخية الكبيرة في عالمنا العربي التي يجمع المراقبون والخبراء على أنها تؤشر على أفول نجم أميركا من المنطقة، فإنّ الأسئلة التي تأتي سريعاً هي: ما العواقب الجيوسياسية على المملكة في أعقاب الانحطاط الأميركي وصعود ظاهرة الإرهاب ثم سلسلة الانهيارات في العناصر المؤسسة للدولة الوطنية لصالح دول هشة عرقية وطائفية؟ وهل تدفع السعودية فاتورة تخليها عن فلسطين بعدما أحجمت عن اجتراح معادلات توازن ردع عربي في وجه العدو الإسرائيلي لصالح نزعات هروبية انهزامية بلهاء كالذي يحصل اليوم في اليمن والبحرين. ها هي السعودية تورط العرب بأحقادها في اليمن وتبتزهم بأموالها لأنها تعلم علم اليقين حجم الخطايا التي ارتكبتها بحق اليمنيين والفلسطينين وبقية الشعوب العربية، وتجد أنّ التهديدات تلاحقها لأنه انفضحت على حقيقتها الكاملة.
من جانب آخر، ظل الفلسطينيون يعيشون أوهام الصداقة مع مملكة حرّكت بنحو عاجل «درع الجزيرة» لتفريق تظاهرة في البحرين ولكنها لم تحرّكه يوماً في مواجهة وحش الإرهاب وهو يدمر غزة على رؤوس قاطنيها. وها هي السعودية برفقة العرب الأشاوس يشنون الغارات على اليمنيين بعد طلب من الجامعة العربية الموافقة على قرار لتدّخل عسكري عربي مباشر حين تقدم الحوثيون باتجاه عدن.
حسناً قال الجاحظ مرّة في البيان والتبيين: «إذا انقطع رجاؤك من صديقك فالحقه بعدوك». متى يعتبر الفلسطينيون، ويتذكر من تنفعه منهم الذكرى؟!
*كاتب و أستاذ جامعي