في عام 1918، على مشارف نهايات الحرب العالمية الأولى، ولد اندريه في قرية كتاهيا الارمنية. بعدها بأشهر قليلة، وجد الطفل اندريه نفسه في لبنان، مع عائلته التي هاجرت هرباً من قمع الأتراك، واستقرت في برج حمود. لا يمكن التأكد من خطّ سير العائلة قبل الوصول إلى برج حمود، لكنها، ككثير من مسيرات الهجرة الارمنية، كانت مشوبة بالشقاء وبصراع الهوية والبقاء.
عاش اندريه طفولته في برج حمود، وحينما انتهت الحرب العالمية الثانية، بسنوات قليلة، وجد عملاً في شركة فرنسية تدعى «بارك أوتو»، وسرعان ما انتقل في رحلة هجرة جديدة، هذه المرة من اجل العمل في فرنسا مع الشركة نفسها التي أنهت اعمالها في لبنان. كان ذلك في بداية الخمسينيات. صار اندريه، الأرمني اللبناني، بعد سنوات قليلة فرنسياً أيضاً. اختلطت هويات ثلاث في شخصيته، وجعلته، كما كثير من الأرمن غيره، قادراً، بشكل مثير للإعجاب، على التواصل والتقارب مع اي نوع من الهويات والثقافات. في عام 1967 عاد اندريه الفرنسي الأرمني اللبناني الى لبنان، ومعه فكرة افتتاح حانة على نسق «البيسترو» الباريسي. وبالفعل وجد في شارع الحمرا محلاً صغيراً، حوّله الى حانة نالت شهرة واسعة وحملت اسمه «شي اندريه». كانت للحانة مشكلة واحدة: عدم وجود حمّام (مرحاض) فيها. كان هناك حمام في مكان ما أسفل المبنى حيث توجد الحانة، وكان على الزبائن لكي يفرغوا ما شربوه من بيرة وسواها، أن يخرجوا من «شي اندريه» ويتكبدوا عناء نزول الأدراج في المبنى الى الحمام الخارجي. مع ذلك، لم يؤثر هذا التفصيل المهم آنذاك في مشروع اندريه. واستطاع الرجل أن يحوّل تلك الزاوية التي لا تتعدى مساحتها العشرين متراً مربعاً، والتي لا يوجد فيها حمام، إلى أشهر حانات شارع الحمرا في الستينيات والسبعينيات، وشهدت زيارات من مشاهير كشارل أزنافور وجوني هوليداي وملكة جمال الكون جورجينا رزق وزياد الرحباني...
رغم عربيته الركيكة، كان اندريه «لبنانياً محضاً»، يقول ابن اخته ارتور، بكل ما يعنيه ذلك من طباع لبنانية جيدة وسيئة. وكان ذلك قبل الحرب الأهلية اللبنانية. عاشت الحانة عزّها المنشود من نهاية الستينيات حتى منتصف السبعينيات، وحتى مع بدايات الحرب الأهلية، كان اندريه يشعر بأن الأمور لن تتطور كثيراً، حتى أثبت له بعض المسلحين في شارع الحمرا العكس، حينما فجّروا الحانة بعد سنوات قليلة من اندلاع الحرب، فحمل حقيبته وجنسياته الثلاث وغادر الى فرنسا. بقيت الحانة تعمل حاملة اسمه بعد ترميمها، وبعد عودته في زيارة عام 1987، أراد أن يستقر نهائياً في لبنان بعدما وجد أن الامور بدأت تهدأ، لولا كمية من القذائف انهمرت حول منزله، جعلته يوضب حقيبته مجدداً ويهرب عبر مرفأ بيروت إلى قبرص ومنها إلى فرنسا نهائياً. بعد الحرب عاد أندريه متفقداً بيروت، لكنه لم يزر الحانة أبداً. يتحدث ارتور، ابن شقيقة اندريه عن هذه الذكريات اليوم، من حانة معروفة بـ»ريغوستو» لكنها تحمل في الواقع اسم «شي اندريه» والاسم مكتوب على لوائح الطعام والشراب فيها. بعد انتهاء الحرب، أدار ارتور حانة اندريه القديمة، بالحماسة ذاتها التي كانت لخاله في الستينيات. واستطاع بما يحمله من طباع خاله وخليط الثقافات المتوارث أن يلعب الدور الذي لعبه اندريه في جذب الزبائن من مختلف الانتماءات والجنسيات اليه. استطاع أن يستثمر جيداً مفهوم «الستيريو» الأرمني - اللبناني الذي تحدث عنه زياد الرحباني في مسرحياته، وللمناسبة يذكر ارتور أن اثنين من العاملين في «شي اندريه» أيام خاله (عبدالله وفؤاد)، شاركا في التمثيل مع زياد الرحباني في مسرحية «شي فاشل». وعلى الغالب ليست بعيدة شخصيات مسرح زياد الرحباني الأرمنية عن شخصية اندريه أو شخصية ابن اخته ارتور. ببساطة «ستيريو». وهذا أمر لا يزعج ارتور، بل على العكس، يقول إن الأرمن تعلموا من المجازر التي تعرضوا لها، ويعرفون جيداً معنى الألم، لذلك لم يكونوا مشاركين في أي صراع مسلح في لبنان، ولن. حينما اندلعت الحرب الاهلية، حاول اندريه كغيره من أرمن لبنان أن ينأى بنفسه عن الحرب، أن يتركها خارج نطاق عالمه، تماماً كالحمام الذي كان خارج حانته. لكنه لم ينجح في ذلك. كان البلد بأسره قد تحول الى مرحاض كبير لجميع مقاتلي العالم. انسحب اندريه الى فرنسا، ومات فيها. بقيت الحانة في الحمرا من دون مرحاض، مفتوحة حتى عام 2006، وكان يديرها ارتور. قبل ذلك بسنوات قليلة افتتح حانة اخرى، تحمل اسم ريغوستو، إيذاناً بتسوية الشي اندريه وإقفالها نهائياً. في سنواته الاخيرة عاش شي اندريه بداية الحرب الاهلية الجديدة التي بدأت عام 2005. ظل قادراً على الصمود، على الرغم من عدم وجود مرحاض، وعلى الرغم من انه «لا يوجد لدينا عصافير مشوية» و»البطاطا عند جارنا» كما كان مكتوباً على الزجاج. لكن ارتور لا يريد ان يكرر تجربة اندريه بحذافيرها، وإلا سيضطر مثله الى الهجرة. يؤمن بأن البلد لا بد أن يتحسن رغم كل شيء. يستثمر منذ عام 2004 حانة الريغوستو برخصة «شي اندريه» وروحية خاله، واستراتيجية «الستيريو»، و... مرحاضين.