حتى الساعة السادسة عصراً، كانت أم محمد حجازي لا تزال في أحد حقول البلدة البعيدة تعمل على زراعة شتول التبغ. تسابق الوقت، مع زوجها وابنتيها، لكي ينجز العمل الذي بدأوا به عند شروق الشمس، قبل المغيب. «لا وقت للراحة، وقد أحضرنا معنا كعادتنا عدّة الطعام والشراب مع غاز صغير وابريق شاي. علينا الانتهاء من زراعة 8000 متر مربع قبل أن تبدأ درجات حرارة الطقس بالارتفاع ليبدأ معها نموّ الشتول المزروعة». بين المنزل وحقول التبغ تقضي أم محمد أيامها، فالعمل في الزراعة يستمر طيلة أيام السنة، باستثناء شهرين أو ثلاثة على الأكثر في فصل الشتاء. منذ نعومة أظافرها كانت حجازي، كغيرها من نساء بلدات عيترون ورميش وعيتا الشعب وحولا...، تقصد حقول التبغ لمساعدة أسرتها.
تقول: «اعتدت على هذا العمل الشاق الذي لا بديل منه عند الفقراء، وأنا على علم أن المرأة يقع عليها العبء الأكبر في هذا العمل، خصوصاً في ما يتعلق بقطاف الشتول وزراعتها ومن ثم قطاف أوراق التبغ وشكّها». لم ينحن ظهر أم محمد، فهي تقف رافعة رأسها بين الرجال، رغم أنها تنحني دائماً، أكثر من 10 ساعات يومياً، فقط للأرض والتراب، أثناء عملها في الزراعة وتنظيف المنزل.

التفوق الدراسي

لا أمل عندها بأن تعيش كغيرها من اللبنانيات «المرتاحات»، كأن تتجول في الأسواق التجارية فيما تقوم الخادمة بتنظيف منزلها والاعتناء بأطفالها، ثم تعود لاستقبال جاراتها وتشرب معهن القهوة لأوقات طويلة. حياتها «الصعبة لا توصل أصحابها الى تحقيق أحلامهم بالحصول على الراحة والثروة، لأن لا بديل لمن يعمل في زراعة التبغ إلّا الانتقال بين الأسواق للتسوّل» تقولها بحرقة، مفاخرة في الوقت عينه بأن «بناتها تعلّمن الزراعة والدراسة معاً، يحملن كتبهن الى الحقل، ولا يعطلن عن الدراسة إلّا في أيام الزراعة والقطاف». وهذا ما تفعله غالبية أبناء القرى الزراعية، حتى أن بعض المدارس تقفل أبوابها في مثل هذه الأوقات.
أم أحمد مصطفى مزارعة أيضاً. أمضت، حتى الآن 25 سنة من عمرها في زراعة التبغ، «يوم تزوجت مزارعاً كان لا بديل لي من الزراعة، لأن جميع عائلات البلدة يتكلن على انتاج التبغ، الذي تكون المرأة عمدته الأولى فالرجال لا صبر لهم على الشك والقطيفة». قليلة جداً هي الأوقات التي تستطيع فيها أم أحمد ترك المنزل والحقول. قد يمر عام كامل على أم أحمد من دون أن تخرج من البلدة. تذكر أنها زارت الضاحية الجنوبية لبيروت قبل 14 شهراً، ليوم واحد، لتعود مسرعة الى الحقول «أزرع مع زوجي وأولادي 14000 متر مربع بشتول التبغ، العمل صعب جداً». لكنه «ممتع ويؤمن لي الراحة النفسية بعدما أتاح لي تعليم أولادي، لي بنت متفوقة حصلت على المرتبة الأولى في جامعتها في الأدب الفرنسي، رغم أنها تساعدني في زراعة الشتول وقطفها وشكها».
تؤكد أم أحمد أن جميع بنات المنطقة يزرعن مع آبائهم وأزواجهم المزارعين، والزراعة علمتهن الصبر، وجعلتهن يقوين على العمل والكدّ والدراسة والتفوق، لأنهن ذُقن مشقة العمل في الأرض، وأردن أن ينتصرن على واقعهن الصعب.
لأم أحمد أربع بنات وشابين، بينهم ابنة من ذوي الحاجات الخاصة، أصرت على تعليمها في أحد المراكز المتخصصة، وتحرص على ان تبقى تحت إشرافها المباشر رغم كل انشغالاتها. وهي تتباهى بإنتاجها الزراعي المتواضع «أنتج حوالى 15 مليون ليرة في السنة، تكفي لإطعام أولادي وتعليمهم، رغم أن منزلنا لم يكتمل بناؤه بعد 25 سنة من العمل الشاق».
في أوقات «القطيفة» تنهض كغيرها، في الثالثة فجراً، تتوجه مع جميع أفراد أسرتها الى الحقول المزروعة، «نستعمل مصابيح صغيرة جداً، نربطها في قبعات رؤوسنا ونبدأ بقطف الأوراق، لنعود ظهراً الى المنزل، فأبدأ بتنظيف المنزل وطبخ الطعام، وأحياناً أتابع دراسة أولادي، قبل أن نعود جميعاً الى غرفة مخصصة لشكّ أوراق التبغ، ونستمر كذلك حتى لا نقوى على الحراك، ونخلد الى النوم». كل أشكال التعب هذه، لم تؤثر سلباً في نفسية أم أحمد وأولادها، «الأهم أننا نعيش أحراراً، نعمل براحتنا ولا نخضع لأمرة أو وصاية أحد».
يتحدث أبناء بنت جبيل عن مدرسات وطالبات بلدة رميش المجاورة، اللاّتي «يعملن صباحاً في زراعة التبغ، وهن يلبسن ثياب العمل البالية، وقبل موعد الدراسة يلبسن أجمل الثياب، ويتزينّ، وبعد الخروج من المدرسة يعدن كما كنّ الى حقولهن، والبسمة الدائمة على وجوههن».

متعهدات زراعة

في بلدة حولا، تحولت بعض نساء البلدة الى متعهدات زراعة، بعدما تعلّمن كل فنون العمل فيها. بسرعة ترتدي زينب نصرالله (40 سنة)، في الثالثة فجراً، ثياب العمل. تدير محرّك سيارتها الجديدة من نوع «بيك آب»، وتجول على عدد من الأيدي العاملة من أبناء بلدتها، لتقلّهم إلى سهل الخيام، الذي يبعد عن البلدة نحو 25 كلم. هناك يكون «القطاف على أنوار مستعمرة المطلّة الخافتة، فالقطاف الباكر ضروريّ جداً، لاستغلال الوقت، لكنه يحتاج الى الضوء الذي نسرقه من المستعمرة المضيئة». تتسابق زينب وعمالها على قطاف أوراق التبغ، لأن الحقول التي زرعتها كبيرة جداً، تزيد مساحتها على 50 ألف متر مربع، وهو رقم لم يصل إليه مزارع جنوبي حتى الآن، فكيف إذا كان المزارع امرأة، تعمل أيضاً في خبز الخبز وبيعه، إضافة الى مواظبتها على ادارة دكان صغير قرب منزلها، ومتابعة دراستها الدينية في احدى حوزات المنطقة. هي «ليست المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة، لقد بدأت بزراعة 12 دونماً، وأنا في السابعة عشر من عمري، أما اليوم فأزرع خمسين دونماً وأطمح إلى المزيد».

تشارك الفتيات في الزراعة
والقطاف من دون التخلي
عن الدراسة

تتحدث زينب عن أيام الفقر والاحتلال، يومها فكّرت بما يجب عليها القيام به للحفاظ على كرامتها وكرامة أخواتها، «تعلّمت زراعة التبغ من والدي، الذي رحل عنا باكراً، فأخذت على عاتقي متابعة الطريق، وعلمت أنني أستطيع فعل كلّ شيء بالصبر والنظام».
عند المغيب تتهيأ زينب وأخواتها الثلاث لصناعة الخبز القروي (المرقوق)، وعلى أخواتها أن يخبزن باكراً مع والدتهن، أما في أوقات الاستراحة من زراعة التبغ، فتعمل زينب على مساعدتهن، وتقول: «علينا أن نخبز يومياً 20 عدّة خبز كحدّ أدنى» أي ما يعادل 400 رغيف خبز، يتم تسويقها بسرعة قياسية، «الزبائن يحضرون الى المنزل يأخذون الخبز وبعض التجار يوزعونه على المحال التجارية».
هذا لا يعني أن لا وقت للفراغ عند هذه الأسرة «نعيش كغيرنا من أبناء البلدة، لكننا نستغلّ الوقت جيداً، ونفتح دكاناً صغيراً كان يحقق لنا أرباحاً معقولة، فنحن نستطيع البيع والشراء أثناء عملنا في شكّ التبغ أو خبز الخبز في جوار المنزل، لأن الزبائن يعلمون مكان وجودنا».
في شهر أيار من كل عام تكون زينب قد انتهت من زراعة شتول التبغ وبدأت بقطاف شتول أخرى، فالأراضي تحتاج الى وقت طويل لزراعتها (بين آذار ونيسان)، وتحتاج زينب الى نحو 10 عمال لمساعدتها في القطاف، لأن سهل الخيام ينتج بشكل مضاعف، نسبة الى أراضي القرى الجبلية، وهذا يساعد زينب في ترك العمل في الحقل قليلاً لتعود الى البلدة لمتابعة عملية شك الأوراق، التي توزع الكثير منها على بنات الضيعة ليساعدنها في شكّها مقابل أجر محدد، في الوقت عينه تقوم بطبخ الطعام للعمال داخل منزلها، وأحياناً تستغل بعض أوقات الفراغ لمتابعة دروسها الحوزوية.
تحتاج زراعة 50 دونماً من التبغ الى مصاريف كثيرة، اضافة الى استئجار الرخص من أصحابها، تقول زينب: «تكلفني زراعة هذه الأراضي 30 مليون ليرة سنوياً، أما الإنتاج الصافي فيزيد على الخمسين مليون ليرة».
إنتاج زينب وأخواتها بات مثالاً يقتدى به، حتى أن بعض الأمهات بتن يعايرن بها أولادهن من الشباب العاطلين من العمل، ويقلن لهم: «شوفوا زينب كيف بتشتغل بتعرفوا انوا البلد ما بيخلى من الشغل». أكثر ما يزعج زينب اليوم، ليس العمل وصعوبته، بل «انتقادات البعض لعملي الكثير». أما «البيك آب» فلم يحرج زينب بقدر ما أزعجها عدم تقبل البعض لقيادتها له ونقلها عمالها الى عملهم. كلّ ذلك لا يبدو أنه سيخفّف من نشاطها، فهي تطمح لتعلم كيفية تصليح أعطال السيارة الطارئة «كي أستطيع تخليص نفسي واستغلال وقتي»، كما تطمح لإقامة «مزرعة لتربية الأبقار، وتربية النحل، وإيجاد فرص انتاجية أقل مشقّة على شقيقاتي، فكل ما أريده أن تعمل شقيقاتي في مؤسسة تابعة لهنّ، حفاظاً على كرامتهن».




رخصة الوزارة

يحق للعائلة المزارعة زراعة 4000 متر مربع فقط، بحسب رخصة الزراعة المقرّرة لها، إن وجدت، ويتكبّد المزارع مصاريف كثيرة على زراعة هذه الأرض، من بينها ما يقارب 250 ألف ليرة سماداً للتربة، و200 ألف ليرة للفلاحة، و74 ألفاً بدل أجرة الأرض المستأجرة، و60 ألفاً بدل تأمين مياه للريّ، إضافة إلى الأدوية التي تستخدم لحماية الشتول من الاهتراء، والخيطان وأكياس الخيش التي تلفّ بها أوراق التبغ المكدّسة. أما الدونم الواحد فينتج حوالى 100 كلغ، أي ما يوازي 1.200.000 ليرة، فقط. ولا تتسلم إدارة التبغ والتنباك من صاحب الرخصة أكثر من 400 كلغ، ما يعني أن على المزارع أن يوزّع إنتاجه الفائض على مزارعين آخرين أو يقدمه مجاناً لإدارة التبغ والتنباك، أو بيعه لمزارعين آخرين. ويلاحظ أن عدداً كبيراً من أصحاب الرخص يقومون بتأجير رخصهم هذه للمزارعين المعدمين، بحوالى 500 ألف ليرة سنوياً، وأحياناً تصل الى أكثر من ذلك بكثير، وبعضهم يتقاسم الإنتاج مع المستأجرين.




مواجهة النزوح

25 ألف أسرة في لبنان تعتاش اليوم من زراعة التبغ، بحسب مصدر في مؤسسة الريجي، بينهم حوالى 17 ألف أسرة في جنوب لبنان. ويشير المزارع حسن مراد الى أن «هذه الزراعة هي التي ميّزت بعض القرى والبلدات عن غيرها، من حيث طبيعة الحياة ونمط العيش وعدد المقيمين الذين وجدوا من زراعة التبغ فرصة للبقاء»، فيلفت إلى أن «البلدات الأكثر كثافة للسكان المقيمين في منطقة بنت جبيل هي البلدات التي يعتاش أبناؤها من زراعة التبغ، فعلى سبيل المثال لا يعيش في بلدة عين ابل، التي لا يزرع أبناؤها التبغ، أكثر من 1500 نسمة، بينما يعيش في بلدة رميش الزراعية المجاورة أكثر من 7000 نسمة». متسائلاً عن السبب الذي يمنع الدولة من دعم الزراعات الأخرى وتأمين تصريف إنتاجها وبيعه، «لأن ذلك قد يساهم في محاربة آفة التدخين من جهة، وتسهيل أمور المزارعين الذين ترهقهم زراعة التبغ التي تطلب وقتاً وجهداً كبيراً طيلة أيام السنة من جهة ثانية».
يذكر أن بلدة عيترون تنتج وحدها سنوياً حوالى 14 ألف طرد من التبغ أي ما يعادل 350 ألف كلغ، وبلدة رميش حوالى 320 ألف كلغ وكذلك بلدة عيتا الشعب، وهي القرى الأكثر إنتاجاً للتبغ في منطقة بنت جبيل. كما أن معظم مزارعي التبغ يعتمدون بشكل كلّي على هذه الزراعة، ولا يستفيدون من أي ضمانات صحية أو علاجية، رغم مطالباتهم المتكرّرة بتسجيلهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.