دمشق | نظنُّ أن معظم قراء اليوم لم يسمعوا بالشاعر محمد الفيتوري (1936- 2015)، وربما بعض ممن يكتب شعراً أيضاً. صمت شاعر أفريقيا والعروبة باكراً، إذ بدا أنه غريب اليد والوجه واللسان عن الخريطة التي أنشد لها قصائده الحماسية. مشهد جنازته التي رافقها نحو 30 شخصاً، هي الوجه الآخر لحال العروبة التي هتف لها حتى بُحّت حنجرته. رحل صاحب «عاشق من أفريقيا» يوم الجمعة الماضي بعد رحلة طويلة مع المرض.
سيرته تشبه قصائده المتمرّدة، إذ أنكرته بلاده السودان لمواقفه المعارضة للرئيس الراحل جعفر النميري الذي أسقط عنه الجنسية، فاستقبلته ليبيا القذافي ومنحته الجنسية. وبرحيل القذافي، سحبت السلطات الجديدة جواز سفره، ليموت وحيداً ويُدفن في مقبرة الشهداء في الرباط. بالنسبة إلى جيل الخمسينيات وما تلاه، كانت قصائد الفيتوري بيانات ثورية في التحرّر والاستقلال وتحطيم القيود، والتطلّع إلى شمس أخرى، لكن هذا الحلم العروبي الصاخب بقي مجرد نصوص يقرأها التلاميذ في المناهج المدرسية، وفي حناجر بعض المغنين. مات الفيتوري بموت العروبة إذاً، لتطوى صفحة شاعر لم يعد صالحاً لزمن الانكسارات والهزائم والخيانات، ولن يلتفت أحد إلى ندائه «للسجن باقٍ ولا السجّان». كما أنه رثى نفسه باكراً حين أنشد «لا.. لا تحفروا لي قبراً، سأركض في كل شبر من الأرض، أركض كالماء في جسد». حين نستعيد جذوة الشعر الثوري العربي في حقبته الأولى، ذلك الشعر المحمول على القضايا القومية الكبرى، سيحضر شاعرنا في طليعة تلك التجارب، سواء لجهة الحماسة الثورية، أو لجهة التجديد في بنية الإيقاع الشعري، فهو من أوائل الذين دشنوا قصيدة الشعر الحرّ، وأحدثوا زلزالاً في الذائقة الشعرية، متجوّلاً بنبرته العالية من أفريقيا إلى فلسطين. لن تهزمه نكسة حزيران 67، إنما استمر في حراسة الحلم الثوري «كلما اختلجت شهوة الدم في الأرض. أشعلت المدن الوثنية في الظلمات معابدها /وأراحت خيول الغزاة/ حوافرها العارية فوق خريطة الشرق»؟ على الأرجح، فإن الفيتوري ملّ كتابة المراثي، وهو يرى أحلام الأمة تتبدّد، فصمت منذ سنوات، محتضناً أوجاعه وخيباته، لكننا سوف نستعيد دوماً تلك الروح الملحمية التي تنطوي عليها أشعاره وهتافه المتفرّد «وأنا من؟ سوى رجل واقف خارج الزمن/ كلما زيَّفوا بطلاً قلت: قلبي على وطني، وقتلوني، وأنكرني قاتلي». في رصيد الشاعر الراحل نحو 20 ديواناً، بدءاً من منتصف الخمسينيات، وكانت آخر أعماله «عرياناً يرقص في الشمس» (1995).