لوحة الصراع العالمي والإقليمي، معقدة، متشابكة، متقاطعة؛ يصعب على المراقبين والمحللين والمناضلين والمواطنين، أن يحيطوا بخطوطها وألوانها؛ الكثيرون يعلنون بأنهم لم يعودوا يفهمون شيئا! معهم حق؛ فمنذ أن اتجهت روسيا ــــ بوتين إلى استعادة موقعها الدولي، ساعيةً إلى عالم متعدد الأقطاب، وتنامي الدور الإقليمي الإيراني، بدأ العقل العربي ــــ المؤسّس على الذكريات ومنهج القياس ــــ بالرجوع إلى منطق الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي؛ غير أننا، في الواقع الجدلي ( الديالكتيكي)، لسنا أمام صراع مركزي كوني، بل أمام صراعات عديدة متعددة الدوافع والمسارات والنتائج؛
ولسنا أمام انقسام أيديولوجي عالمي، وإنما أمام أيديولوجيات متعارضة ومتحالفة؛ ولسنا، أخيراً، أمام خيار بين نظامين اقتصاديين اجتماعيين، بل أمام صراعات قومية داخل النظام العولمي الرأسمالي نفسه، عنوانه الاستقلال؛ استقلال الدول القومية وقراراتها السياسية والاقتصادية، واستقلال نهجها التنموي والثقافي، واستقلال أنظمتها الوطنية، في إطار سيادة القانون الدولي، والاحترام المتبادل للخيارات الوطنية. وهذا هو، بالضبط، ما يُسمى العالم المتعدد الأقطاب.
تعددية الأقطاب تخضع، أيضا، للعولمة التي لا مناص منها؛ فهناك قضايا مشتركة مثل البيئة والموارد البيئية والطاقة والأوبئة والإرهاب الخ. وهذا ما تسعى الدول القومية الصاعدة إلى وضعه على جدول الأعمال الأممي، بينما لا تزال الإمبرياليات الغربية، مصممة على عدم التخلي عن سيطرتها وتحكّمها بالبشرية ومستوى أرباحها. وسآخذ الآن، قضية واحدة، هي قضية الإرهاب، وتحديداً الإرهاب الإسلامي التكفيري.
استخدمت الولايات المتحدة خصوصاً، والغرب عموماً، ذلك النوع من الإرهاب، كأداة رئيسية في سياساتها الخارجية المصممة على منع التعددية القُطبية بأي ثمن، لأربعة أسباب، هي، أولاً، تجذّر أيديولوجية دينية فاشية تحظى بالرواج بين كتل بشرية تُعَدّ خزّاناً لا ينضب لتجنيد الإرهابيين، ثانياً، التمويل والإشراف الميداني والتحريض الإعلامي لأنظمة نفطية عربية مسلمة، كالسعودية والمنظومة الخليجية، وثالثاً، بسبب تلافي الحرج الأخلاقي الناجم عن العلاقة المباشرة مع الإرهابيين، وحتى التمسك بالحرية في الهجوم عليهم، أيديولوجياً وأمنياً وحربياً، ورابعاً، استخدام الإرهاب الاسلامي التكفيري للتحشيد الداخلي لدى الشعوب الغربية لاستثارة الاسلامو ــــ فوبيا.
في هذا السياق بالذات، وبوساطة أنظمة «اسلامية» في السعودية وقطر وتركيا، جرى تحويل عميق للانتفاضات الشعبية العربية في 2011، إلى «صحوة إسلامية»، انتهت بخروج المارد الإرهابي من القمقم في ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وبدرجة أقلّ في مصر ولبنان وتونس. صناعة الإرهاب أفلتت من الأيدي الآثمة، فانتهينا إلى قيام «داعش»، واستقلالها النسبي عن صانعيها، وتمتعها بشعبية جدية في البلدان العربية المسلمة، وخصوصا المملكة السعودية، حيث هيكل النظام السياسي والتعليمي والثقافي، هو، بالأساس، داعشيّ. ومن الواضح أن «داعش» تتقدم في سياق المعادلة المعروفة للتنظيمات المتطرفة، حيث يجتذب أكثرها تطرّفاً ودموية، المجموعات والمقاتلين، الأقل تطرفاً، في صفوف الطائفيين والتكفيريين.
الإرهاب التكفيري تحوّل إلى مشكلة عربية واسلامية وعالمية. وإذا كان التطرف الديني يشكل تعبيراً عن الفشل التنموي والانحطاط الثقافي والتجذّر الرجعي، فإن الدوافع السيكولوجية التي حددها سيغموند فرويد في الغرائز المضادة للحضارة، أي حرية القتل وحرية الاغتصاب وحرية السطو، تشدّ الآلاف ممن لا ينطبق عليهم التحليل الطبقي. ومن هؤلاء أمراء وشيوخ الخليج، وكذلك المواطنون الغربيون أو المسلمون المجنّسون في دول الغرب. وبالنظر إلى تطوّر وسائل الاتصال وفعالية المتفجرات والوسائل القتالية، وتشهّي الانتحار للحصول على متع الجنّة، فإنه يكفي أن يندرج 10 في المئة من المسلمين في المنظمات الإرهابية، لبث الفوضى العالمية، وتحطيم البشرية والحضارة في الشرق والغرب معا. الإرهاب، بالأساس، سلاح امبريالي ـ رجعي لمنع التعددية القطبية وتدمير الدول واقتصاداتها؛ لكن استقلالية السلاح نفسه، تجاوزت الحدود، وترتد ، وسوف ترتدّ أكثر فأكثر، على الدول التي تستخدم الإرهابيين.
سعت واشنطن، منذ العام 2010، إلى التفاهم مع الاخوان المسلمين للتخلّص من الأنظمة العربية القديمة، الموالية والمعارضة معا، من جهة، ولإخضاع الأدوات الإرهابية في سياق سياسي. وقد فشلت هذه التجربة سريعا، لتضع الأميركيين في معمعة الحيرة والارتباك.
وجد تيار أميركي قوي يتزعمه الرئيس باراك أوباما، أنه بات ضروريا التفاهم مع قوة إقليمية مقتدرة وعقلانية ومعادية للإرهاب؛ ويأمل أوباما بطيّ صفحة الملف النووي الإيراني من أجل التوصل إلى مخرج، بالتعاون مع طهران، لكبح الانتشار الارهابي وأخطاره. ولكن، بالمقابل، نرى واشنطن، وهي تسمح بتزويد منظمة ارهابية، كالنصرة، بصواريخ التاو، الشديدة التأثير في سير المعارك، كما حدث في جسر الشغور. وفي اليمن، يتضح أن اعتماد السعودية على مقاتلي القاعدة، أساسي لتحقيق «خبر عاجل»!
لكن، في المقابل، يفتي أوباما، للأنظمة الخليجية، بأن ما يهددها هو الداخل وليس الخارج، كما يقرر توحيد البندقية الإرهابية السعودية ــــ القطرية ــــ التركية، في جيش واحد لمقاتلة النظام السوري.
الولايات المتحدة في مأزق؛ فلا يمكنها، من جهة، أن تغض الطرف عن تعاظم القوى الإرهابية، وما تمثله من تهديدات؛ ومن جهة أخرى، فإنها تصطدم بحقائق ميدانية توضح أنه من الصعب الاستغناء عن قوة الإرهاب في مواجهة النظام السوري وحزب الله وحماية اسرائيل. أي الخيارين ستأخذه واشنطن في المرحلة المقبلة، سيكون له آثار إقليمية بليغة؛ (1) التفاهم مع إيران على قاعدة مواجهة مشتركة مع الفاشية الدينية. وهو ما يتطلب، بالطبع، تقديم تنازلات من لدن حلف المقاومة، لا مناص من التعاطي معها، في التقسيم الواقعي للعراق والتسوية او التقسيم في اليمن الخ (2) استخدام السلطة الانقلابية في السعودية وتحقيق تحالف تركي ــــ سعودي في مسعى لضبط القوى الإرهابية وتوظيفها مع تلافي ارتداد أخطارها على المشغّلين.
حتى الآن، فإن ما تسعى إليه واشنطن، هو المضي قدما في مزيج من الخيارين، الأول والثاني، أي التفاهم مع إيران في ما يتصل بمواجهة الإرهاب في المنطقة، وفي الوقت نفسه، تظهير وتصعيد تحالف سعودي ــــ تركي ضد سوريا، في سياق التصعيد ضد روسيا؛ الكرة، الآن، في الملعب الإيراني.