علامَ يلجأ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى العبث بالنحو والصرف السياسيين حتى لا نكاد معه نقف على قاعدة يفهمها أهل العلم والأدب؟ ألكي يسلّي عن نفسه ألم «الطائفة القلقة» ويهوّن عليها احتمال الفناء السريع؟ أو هو فعلَ هذا لأنّه لا يحبّ أنْ يقيّد نفسه في لزوميات وشمائل نخبة لم يلاحظ الاستعمار المؤسّس لها، والحديث الممدّد لها، في ترتيب نزولها على البيئة اللبنانية، سقم تركيبها ورداءة طلائها، فأعجل خطواته وأقعدها على كراسي الحكم كيفما تيسّر واتفق، فوجد الزعيم أن لا شيء يحتم عليه السير على منوالها!
أو هو سئم حمل أعباء وظيفة «كاهن سياسة» التي ورثها كرهاً عن أبيه المعلم، فأخذه السأم إلى حانات الملوك والأمراء، حيث لكل كلمة نقودها الذهبية وكأسها التي تُفرح قلب الإنسان! أم أنّ الكتب المولع بقراءتها جعلته دائب التحديق في رؤى مرعبة غريبة فصلته عن المجرى الرئيسي للحياة، فلا يعرف ما قرأ ولا يدري ما قال؟ ثم إنّ الكتب تلك عرّضته لتبديلٍ كبيرٍ في ملامح أفكاره التي لبث عليها زمن العناية السورية المركّزة، والإيمان بفلسفة تقوم على كون الحقيقة هي ما يختبره المرء من قوة أنانيته وما تفرزه نزواته من مصالح، فصار أمام الناس كأوراق شجر الغار الصفراء في زمن خريفي تضطرب هنا وهناك، أو مثل مخلوق بشري تعس يحني رأسه باتضاع، تارة في لينينغراد وأخرى أمام تمثال الحرية في نيويورك التي تمناّها يوماً مدينة لعمله في مجال الزبالة! أم هو اختار طريقة «الهراطقة» لأنّه اكتشف أنّ الحكمة معطف قديم مضجِر، وأنّ عليه أنْ يستحث الخطى صوب عربات العولمة قبل أن تفوته منافعها ولو كانت مشيته لا تشبه مشية من يقودها فالمهم «أن لا يفرغ العش من مؤونة الشتاء»! أم أنّ هناك أحوالاً أخرى تستفزه على الدوام ليتجاوز بأنظاره ومواقفه هلام هذا البلد الهش وهذه المنطقة المائعة، وعندها يروح يتخيل كيف يطوف العالم أممياً أو يرتد رئيساً على قبيلة أو يتمشّى في غابات الطوائف محارباً أو جالساً في خضم اهتمامات «الرعايا» وأمامه بيت الدين ملتهبة على أنغام جوس ستون!
بلى، رومانسية روح الشباب حالت قليلاً بينه وبين كون «أعذب الشعر أكذبه»، لكن لقاءه التاريخي الذي جمعه مع أحمد الأسير جعله ينتزع السلاسل التاريخية والعقائدية ويمضي للصلاة خلفه رافعاً كفيه إلى السماء مستكيناً مستجيراً وهو ينادي وبعض الخشوع ينزلق على جسده: تشفّع يا أحمد من أجلنا، تشفّع يا أحمد من أجلنا!
كان الأسير يبعث على الاهتمام حقاً ولكنّه يثير النفور، هو والأشخاص الذين سمحوا له أن يهيمن على البلاد بالزعيق والجنون. في أرض القصر وعلى سجاد رائع الروعة كلها، اجتمع فخر التراث والحداثة. كان ذلك جزءًا من فيلم النوم في العسل على الطريقة اللبنانية! وحده وليد بك قادر على الجمع بين الله والشيطان، بين غاندي وميكافيلي، بين ولاية النصرة وإعلان بعبدا، بين ميشال سليمان وميشال شيحا، بين مهرجانات بيت الدين ومعمل سبلين>.. كان ذلك في الألفية الثالثة... ألفية الأعاجيب والنبؤات والربيع العربي!
فماذا يعني هذا: أن يكفّ الرجل عن القراءة ويحصل على شيء من النوم، أم يكفّ عن الفودكا ليدرس الشريعة؟ وفيمَ هذا كله؟ أمِن أجل الثورة السورية الضائعة في نهاية شارع ضيق متهالك؟ أم من أجل بلد ــــ لا يشبه الأرزــــ يراقب سقوطه بصمت! لا، لا، لن يفعل ذلك. بل سيفعل شيئاً آخر. سيلتحق بثوار المحكمة الدولية. فله في الرفيق عاطف مجدلاني وبقية السلف الصالح أسوة في بسطهم أوراق اللعب على مناضد الصفقات والمساومات الداخلية والخارجية. هناك يؤدي عملاً ستكون عيون اللبنانيين قاطبة منصبة عليه. هناك في لاهاي يتجسّد زعيماً طائفياً فوق العادة. أما الأرباح التي سيجنيها من أقواله الناصعة البياض، فسينفق بعضها على إعانة الدروز في سوريا الذين سيلتحقون بالنصرة التي بدورها ملتحقة بإسرائيل إنسانياً «ورب الكعبة» فقط، على ما يشهد أخو العرب أفيخاي أدرعي!
ليس ثمة شيء مخجل عنده، فبساطة الزعيم في الكيد التي يضعها في كلمات سهلة لا يدانيه بها مدان. تعرف كل القوى اللبنانية والدولية أنّ الرجل (نيوتن المواقف) تدفع له إذا ما أرادت الاقتراب منه، أو حين تخاف أن ينقلب عليها، أو حين تحبّ أن ينقلب على غيرها! والرجل الزعيم غبّ الطلب. لديه قريحة فيّاضة. يعرف أيّ كفة يرجّح وأيّ كفة يُسقِط. هكذا قيل: (بيضة قبان) وحالياً بيضة الأمراء من القلمون إلى الجولان إلى جسر الشغور!
ستون سنة وأكثر ووليد جنبلاط يقوّم نفسه بالاعوجاج. علماني بقميص درزي. ثوري في قصر المختارة. مع الكادحين في كليمنصو. فيه شيء من الاشتراكية وأشياء أكثر من الرأسمالية. يجمع في قلبه الكونفوشيوسية والبوذية مع الوهابية والداعشية. مادحاً للمقاومة عند أعتاب الانتصارات، وماشياً إلى حلف مقدس مع خصومها عندما يقرر كل من فؤاد السنيورة ومروان حمادة القيام بحيل مسلية لصالح جيفري فيلتمان. في جبّة ولاية الفقيه عندما يشتاق إلى الكافيار وخبز السنغك الحار، وفي عباءة آل سعود في زمن «التخلي» أو «التحلي»، أو حين يطيب له ذلك!
وليد جنبلاط، هذا بعض ما تسمح به صحافة لبنان. فكن أرشد من أن تكون صاحب مخيلة سهلة القياد والانطلاق، لأنّ بسطاء الناس بدأوا يستوعبون مهمتهم في الحياة، ولكَ في فلاحي الريف الفرنسي، الذي هجموا على قلعة الباستيل التي كانت تمثل رمزاً لكل شيء مكروه، عبرة.
إنّ امثالك من الأمراء المتشردين والخائبين كثيرون اليوم. وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله!