سعت ندوة «1860 تاريخ وذاكرة نزاع»، التي استضافتها جامعة القديس يوسف والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، نهاية الأسبوع الماضي، إلى قراءة أحداث تلك السنة الدموية من منظار تأريخي وسياسي. ولعل أهم ما أضاءت عليه الندوة، العطب المستمر في كتاب التاريخ المدرسي اللبناني، الذي لم يتم التوافق عليه بعد، رغم تعديل المناهج التربوية عام ١٩٩٧،
والذي يشير إلى أن تلك الأحداث «ابتدأت بخلاف على لعبة كلّة بين ولدين درزي وماروني».
قدمت خلال الندوة أوراق متباينة لباحثين لبنانيين وسوريين وأتراك وفرنسيين، منها مراجعات عامة لتلك الحقبة، وبعضها مقاربات من زوايا فرعية، وبعضها الآخر كان قراءة حديثة في وثائق ومخطوطات لم يمط عنها اللثام من قبل. الندوة، التي امتدت على ثلاثة أيام، استعادت «الحدث بمداخله ومخارجه، وبفاعليه المحليين على اختلافهم الديني والاجتماعي، وبتفاعلهم الملتبس مع الفاعلين العثمانيين والدوليين. لكن الأهم أن تلك الحقبة تبقى مفتوحة على دراسة القراءات المختلفة للحدث، وبمعنى آخر، مفتوحة على الاستعمالات الاجتماعيّة المتعددة لهذا الماضي في الحاضر. وبذلك يكون عام ١٨٦٠ عاماً مفصلياً أدى إلى تحوّل تاريخي في مخاض ولادة لبنان المعاصر»، بحسب كارلا إدّه من جامعة القديس يوسف، عضو اللجنة العلميّة للندوة التي ضمت نادين بيكودو من جامعة باريس 1 السوربون؛ ديمة دوكليرك من جامعة السوربون والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى؛ نائلة قائدبيه من الجامعة الأميركيّة في بيروت؛ نادين معوشي من المعهد الفرنسي للشرق الأدنى؛ سعاد سليم من جامعة البلمند وسليمان تقي الدين رئيس اتّحاد الكتّاب اللبنانيين.
وفي حين لم تتمكّن بيكودو من المجيء من فرنسا للمشاركة في الندوة لأسباب صحيّة، قدمت ديمة دوكليرك مداخلة حول «مصطلح المجزرة عند المسيحيين والدروز، ولقد أسهمت كل من بيكودو ودوكليرك في قراءة أحداث عام 1860 من خلال منظوري التأريخ والذاكرة لأن كلتيهما عملت بكثافة على موضوع الذاكرة خلال عملهما البحثي في جامعة السوربون.
وتقول دوكليرك إن «الكلمة الأكثر رسوخاً في الذاكرة الجماعية المسيحية حول أحداث ١٨٦٠ هي «المذبحة» وهو مصطلح أكثر حدّة من «المجزرة» لأنه يؤشر إلى فعل الذبح بالسلاح الأبيض عن قرب، الأمر الذي رسّخ فهماً تخيلياً شنيعاً لعلاقة المسيحيين مع جيرانهم الدروز». أما بالنسبة إلى الدروز فقد استخدموا كلمات من قبيل «حرب أهلية، أحداث، اضطرابات، معارك، وحركات» في وصفهم لأحداث ١٨٦٠ وخلصت إلى أن هناك إنكاراً من قبل الدروز للمجازر، أو أنهم يقدمون تبريرات للحدث وهاجساً دائماً من انحسار وضمور دورهم السياسي بعد تلك الحقبة.
ولفتت دوكليرك إلى أن بحثها يقوم على روايات أبناء الجبل وما حفظوه عن الآباء والأجداد، مشيرة إلى أن المسيحيين لم يكن لديهم عقلية مخالفة، وذلك أدى الى تغاضيهم عن الحادث لأنهم لم يريدوا أن يصنّفوا أنفسهم بالخاسرين، ولأنهم كانوا يؤسسون لقيام لبنان الكبير، يكون فيه الدروز شريكاً لهم.
بدورها، لفتت نائلة قائدبيه إلى أنّه «إذا كان التأريخ لحركات 1842 و45 و60 قد شهد انتعاشاً خلال الحرب الأهلية وما بعدَها فهو يعود الى درجة التوازي ما بين أعمال الشغب في القرن التاسع عشر، والحروب الأهلية في القرن العشرين، توازياً يبعثُ على القلق». ورأت قائدبيه أنّه «في كلتي الحالتين، هناك أزمة في العلاقات بين الجماعات أدت إلى استخدام العنف؛ كما أن هناك أزمة في انتقال الهيمنة ما بين الطوائف». وعدّدت قائدبيه بعض التساؤلات التي تناولتها الندوة ومنها: «كيف تحولت عملية الانتقام من الأسر إلى الطائفة؟ ما هو الدور الذي لعِبَهُ التقسيم الطائفي في جبل لبنان في 1842 والذي أسس للمواجهة؟ أين ومتى وكيف تأتي الأبعاد الآثمة للعنف؟ تحت أية ظروف وتحت أي تأثير تمت تدريجاً، صياغة الروايات المسيحية عن الاضطهاد؟».
وفي ورقة بعنوان «الذاكرة الدرزية وأحداث ١٨٦٠»، رأى سليمان تقي الدين «أن تاريخ لبنان كله هو تاريخ الديموغرافيا بأبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية. ويفهم اللبنانيون كجماعات تاريخهم على هذا النحو، ولم يجدوا بعد صيغة لاجتماعهم السياسي خارج هذه المعادلة، ذاكرتهم مرتبطة بثنائية الهوية والأرض بوصفهما كياناً واحداً». ورأى تقي الدين «أن ذاكرة أحداث ١٨٦٠ تلاشت لدى جماعة الدروز أكثر بكثير مما هو متوقع، فلولا أحداث الجبل (١٩٨٢ ــ ١٩٨٣) لما حضرت أزمة العلاقات الدرزية المارونية. وفي هذه التجربة يسيطر التأريخ السياسي على التأريخ الاجتماعي، ولم نجد بعد رواية نقدية تؤسس لتجاوز ذاكرة الحروب».
وأضاف تقي الدين «لطالما ردد الدروز مقولة أنهم (يربحون في الحرب ويخسرون في السياسة) وفي خلاصة روايتهم لأحداث ١٨٦٠ أن الطرف الآخر غدر بهم ولم تعد لهم امتيازات السيطرة، وربطوا ذلك برواية مخلصية دينية وبخليط من وعي مشوش وبطولات حربية». ولفت تقي الدين إلى أن هناك تياراً درزياً اليوم يتحدث عن حلف تاريخي مع الموارنة كونهم يشتركون معهم في الحذر من صعود الإسلام السياسي.
وفي مقاربة علمية تستند إلى سجلات ووثائق تاريخية حول تبدّل الملكيات العقارية في الشوف، بيّن عبد الله سعيد أن «ما خسره المقاطعجيون الشوفيون كان حقهم المقاطعجي في السلطة السياسية والاقتصادية على فلاحيهم المسيحيين والدروز على حد سواء، وليس حقهم بالملكية الخاصة بهم التي ما زالت حتى اليوم غنية وواسعة». في المقابل، شرح نايل أبو شقرا البعد الاقتصادي والتنازع على الأراضي كسبب داخلي لأحداث ١٨٦٠. ورأى أبو شقرا أنه مع بداية القرن التاسع عشر، أصبحت الملكيات العقارية للدروز والمسيحيين معاً عبئاً عليهم بعدما نهشتها الضرائب المتضاعفة سنة بعد سنة، وفيما تحول المجتمع المسيحي إلى آليات السوق، أحجم أصحاب العهدات من الدروز عن الدخول في هذه الآليات لأنهم كانوا غير ميّالين إلى التجارة والصناعة، وخلص إلى أن انهيار الحكم الشهابي وتدخل الدول الأجنبية في الوضع الداخلي في جبل لبنان فتح باب الأحقاد على مصراعيه، إذ إن كل الأحداث الدموية التي حصلت في الجبل يمكن اعتبارها نتاجاً لهذا العداء بين الدروز والموارنة.
واستند الباحث ألكسندر أبي يونس إلى محفوظات بكركي لمعالجة أحداث ١٨٦٠، مشيراً إلى أن ملف البطريرك يوسف مسعد يبيّن أنه دعا الى الهدوء ورفض الفتنة، ولم يسع الى تغيير نظام القائمقاميتين، بل إن الأحداث هي التي دفعت المتخاصمين والدول المعنية الى إيجاد تسوية ما، فكان نظام المتصرفية.
وقدم الباحث مراون أبي فاضل تصوراً لما يمكن أن يتعلمه الطالب في المناهج الدراسية عن مذابح ١٨٦٠، مطالباً بأن يجري التركيز على الأسباب التي أدّت إليها ونتائجها من وجهة نظر علمية وتربوية، من دون التوسع في سرد أحداث الفتنة وحركات القتل والتهجير.



وزر الجماعة!

يرى الباحث رياض غنام أن فهماً حقيقياً لأحداث ١٨٦٠ يجب أن يستند إلى فهم العلاقات بين الدول الكبرى، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا. ويضيف «انصرفت الغالبية العظمى من المؤرخين المعاصرين لأحداث ١٨٦٠ إلى معالجة تلك الأحداث من زاوية مادية، فدونوا وقائعها بكثير من التفصيل وأسرفوا في المبالغة». ويلفت إلى وجود المئات من المصادر التي تؤرخ لأحد أفرقاء النزاع، لا لفريقي الصراع «فكان من نتائج ذلك ترسيخ قدم الطائفية، الأمر الذي أعطى للنظام السياسي الحالي في لبنان صفة الدويلة في الخارج والطائفية المذهبية في الداخل».
كلام غنام عن «المبالغة» أثار جدلاً واسعاً بين الحاضرين، بعد سؤال أكاديمي للباحث أسامة مقدسي عن الوثائق التي استند إليها غنام لتبرير ذلك، ما فتح النقاش حول موضوع الأرقام وأعداد الضحايا وموضوع التعويضات وتبادل الأراضي التي حدثت بعد ١٨٦٠. وهذا ما دفع الباحث أحمد بيضون إلى السؤال: لماذا يبقى الباحث معرّضاً لما تعرّضت له جماعته الأهلية عام ١٨٦٠ فإذا كان درزياً يحمل وزر الجزّارين، وإن كان مسيحياً يحمل وزر الضحايا؟