غريب هذا الإصرار من قبل جميع شهود الادعاء أمام محكمة الحريري، على نفي أي علاقة بين الرجل وبين القرار 1559. غريب هذا الاستشراس في التأكيد المتكرر على أن المغدور كان ضد القرار الأممي منذ ما قبل التحضير له، حتى ما بعد ظهور تداعياته. لماذا؟!
واللماذا هذه مطروحة مقارنة مع التالي: أولاً أن القرار بات اليوم بضاعة رائجة. ما يعني منطقياً، أن التماهي مع قرار أممي تحول وسيلة لإخراج الجيش السوري من لبنان واستعادة سيادة البلد، ليس مسألة مهينة إلى هذا الحد من التنصل والتنكر. لا بل يمكن لادعاء أبوته أن يكون مربحاً في بازارات السياسة.
ثانياً، يبرز السؤال حول إصرار الإنكار، حين نستذكر أن قسماً لا يستهان به من القوى السيادية سنة 2004، أعلن بلا خوف ولا عقد أنه مع القرار 1559. حتى أن لجنة من هذه القوى تشكّلت يومها، وتحوّلت إلى مجموعة عمل وضغط بين بيروت وواشنطن، تحت اسم «لجنة القرار 1559» بالذات. وكانت بين هؤلاء المجاهرين بتأييدهم للقرار، وجوه بارزة من ضمن التحالف الآذاري، حتى العام 2005. فلماذا هذا التعنت من قبل كل الشهود، من السنيورة إلى جنبلاط، على نفي تلك «التهمة» التي دأب حلفاء لهم على اعتبارها «شرفاً»؟!
التعجب الثالث منبثق من أن للقرار 1559 مساراً واضحاً. قد لا يُعرف بالدقة، متى بدأ قبل صدوره في 2 أيلول 2004. لكن الأكيد أنه لم ينته في ذلك اليوم. إذ ترافق مع آلية لتطبيقه ومن ثم لمراقبته، لا تزال سارية حتى اللحظة. ويشرف عليها «صديق حميم» آخر هو تييري رود لارسن. وهو الرجل الذي ركّب حكومات لبنان منذ أيار 2005 حتى الأمس القريب. وهو من يتعاون معه كل الآذاريين بإيجابية كبرى وحماس واندفاع ملحوظين. كي لا نتذكر متى وأين وكيف بدأت تلك المعرفة والصداقة مع الرجل قبل 20 عاماً، حرصاً على جراح وحساسيات! وبالتالي، إذا كان القرار الأممي المذكور ملعوناً إلى هذا الحد، فكيف يكون التعاون مع ناظره محموداً حتى هذا الدرك؟!
يبقى التعجب الرابع والأبرز، كيف يدعي البعض في لاهاي أن لا علاقة بين الحريري والقرار 1559، فيما كل أدبيات الغرب وتوثيقاته ومذكراته وتأريخاته وكتبه، تؤكد عكس ذلك؟ مثلاً، ولمجرد سوق الأمثلة لا غير، ها هو ريشارد لا بيفيير، الكاتب الفرنسي المعروف، لا المغفل ولا الاسم المستعار، يذكر في مؤلفه «التحول الكبير: بغداد بيروت»، أنه بعد قمة النورماندي الشهيرة بين بوش وشيراك في 7 حزيران 2004، «انطلقت عجلة التحضير الفعلي للقرار 1559، الذي تمت صياغته في نهاية تموز في سردينيا في منزل رفيق الحريري».
الزعم نفسه، عاد لابيفيير ليؤكده بعد خمسة أعوام على كتابه الأول، في مؤلفه المشترك مع الباحث السوري طلال الأطرش «حين تستيقظ سوريا». ففي فصل طويل من الكتاب، تحت عنوان «من المستفيد من اغتيال رفيق الحريري؟»، يعود الباحثان إلى التأكيد على أن «أنّ مشروع القرار بصيغته النهائية وضع أواخر تموز في سردينيا في اقامة الرئيس الراحل رفيق الحريري، بحضور وفد فرنسي وشخصيات سياسية لبنانية». يكرران زعمهما، غير عابئين بمساءلة قانونية أو ملاحقة قضائية قد تؤدي إلى إفلاسهما كما إفلاس دار نشر الكتاب، فيما لو ثبت خطأ كلامهما.
الكاتبُ الفرنسي المماثل صدقية وشهرة، فنسان نوزي، أصدر في خريف 2010، كتابه «في سرِّ الرؤساء». التفاصيل نفسها تعود. بإسنادات أكثر وضوحاً. مع كلام عن مسودة أرسلت وملاحظات وصياغات. بعد عامين، جاء دور السفير الفرنسي السابق والمستشار السابق لجاك شيراك في الإليزيه، جان مارك دولا سابليير، ليصدر كتابه «في كواليس العالم». يقول الرجل «ناقش شيراك وفريقه النص مع الجانب الأميركي والرئيس الحريري».
كتب وتأريخات وتوثيقات أخرى لا تعد ولا تحصى، تكرر الأمر نفسه. كل الغرب يقول إن الحريري كان أحد آباء القرار الذي «حرر» لبنان، إلا شهود دفاع محكمته. ترى، لماذا؟
هل الأمر مرتبط، مثلاً، بالنظرية التي كتبتها مجلة «انتيليجنس ريفيو»، في عددها الصادر في 2 آذار 2005، عن «أن اغتيال الحريري في بيروت تم التخطيط له وتنفيذه بعناية فائقة، بحيث أريد له أن يطلق العنان لسلسلة تفاعلية من الأحداث في المنطقة، وهي الأحداث التي قد تمهد الطريق أمام عقيدة راسخة خاصة بعصبة المحافظين الجدد التي تدير البيت الأبيض في الوقت الحالي»؟ هل الأمر على علاقة، مثلاً، بواقعة ما سمعه أحد أركان 14 آذار الحاليين، في مبنى البنتاغون بالذات، في 3 تشرين الأول 2004، من «أننا لا نريد السماع بعد اليوم باسم الحريري. لقد جربناه وتبين لنا أنه ــــ على عكس وليد جنبلاط ــــ لا يمكن الاتكال عليه وأنه لا يفي بتعهداته»؟
سيناريوهات كهذه، تفتح الباب واسعاً أمام نظريات مناقضة تماماً لرواية المحكمة الرسمية، حول من اغتال الرجل. نظريات غير «صحيحة سياسياً». ولا بد من وأدها. بدءاً من نفي جذورها الأولى العائدة إلى مزاعم بأن للحريري علاقة بالقرار 1559.
يقال في كتب التاريخ إن للنصر آباء كثيرين، فيما الفشل يظل يتيماً. مفارقة التاريخ هنا، أننا للمرة الأولى، ربما، أمام إنجاز يُراد له أن يظل يتيماً، خوفاً ربما من تحوله فشلاً. أو نتيجة كون آبائه أصلاً، من أيتام أبو يعرب وأبو عبدو... مع الرحمة لجميع الموتى.