فلنتأمل هذه المعادلة الثلاثية: أولاً، طهران تتجه نحو اتفاق ما مع واشنطن. ثانياً، واشنطن تستضيف الأنظمة الخليجية في كامب دايفيد، مطمئنة جيلها الثالث ومعلنة تأييدها ودعمها لها. ثالثاً، حرب شاملة على الجبهات كافة وبمختلف الأسلحة، تقوم بين الأنظمة الخليجية نفسها وبين إيران ذاتها... فوراً يقفز إلى ذهنك أن ثمة ضلعاً مختلف أو مخالف في المثلث المذكور. هناك قطعة غير أصلية وغير «راكبة» في البازل. إذا كان الإيرانيون يتجهون إلى اتفاق مع الأميركيين. وإذا كان الأميركيون متحالفين مع الخليجيين، فكيف يكون الإيرانيون والخليجيون في حرب؟!أفضل طريقة للتأكد من العنصر الخطأ، هي التجربة الحسّية. فلنأخذ كل ضلع من الثلاثة، ولنختبر صحته في موضعه.

اتفاق طهران وواشنطن، مثلاً، هل يمكن أن يكون مناورة؟ هل هو مجرد تكتيك إعلامي أم نفاق متبادل؟ هل هو نوع من تنويم أميركي لإيران في انتظار ضربة عسكرية تستأصل برنامجها النووي مرة واحدة أكيدة ونهائية، وتقضي في الوقت نفسه على نظامها بشكل لا قيام له بعدها، وترسي بشكل متزامن نظاماً غربي الهوى والولاء في طهران؟ أو هو في المقابل أمر عمليات إيراني بكسب الوقت، وتضليل العدو، وتحوير اهتمامه، حتى تنجز طهران قنبلتها النووية، فتعلن نفسها قوة عظمى إقليمية أو حتى دولية، في نظام كوني جديد متعدد الأقطاب، يكون محور بريكس فيه قد أنجز إنزال الولايات المتحدة عن عرش أحادية قيادتها العالمية؟ كل أدلة المنطق والتحليل والقياس والتأكد، تشير إلى خطأ هذا الاحتمال. وكل القرائن والبراهين تحمل على الاعتقاد المعاكس. فالطرفان أمضيا في مفاوضاتهما عقداً ونيفاً من الأعوام. واستنفدا فيها جهداً ووقتاً واستثمارات سياسية كبيرة. ثم إن حاجة طرفي التفاوض إلى بعضهما واضحة. إذ لا يعقل أن تكون واشنطن قد قدمت كل تلك «الخدمات» إلى طهران، وهي غافلة أو جاهلة. من ضرب طالبان إلى إسقاط صدام. ومن التحالف معاً ضد «داعش» حتى تحديد مناطق النفوذ والحروب الباردة بينهما. قد لا يكون ضرورياً الذهاب، كما البعض، إلى القول بأن لحظة 11 أيلول خلقت تحالفاً أميركياً ــــ إيرانياً كامناً صامتاً غير معلن. لكن الواضح، على الأقل، أن مصلحة الطرفين في التفاهم حتمية... باختصار، يمكن الاستنتاج أن الضلع الأول من المثلث صحيح، ولا شك في دقته.
بالانتقال إلى الضلع الثالث، ماذا عن الحرب المفتوحة بين الأنظمة الخليجية وإيران، هل هي مزحة أو تفصيل غير جدي؟ هنا أيضاً يبدو تأكيد هذه الفرضية من باب المستحيل. فالمسألة ليست عابرة ولا عرضية بين ضفتي خليج يتنازع شاطئاه كل ما فيه. بدءاً باسم الخليج نفسه، وصولاً إلى ثرواته وعائداتها وتحديد أسعارها ومسارات نقلها ومضائق عبورها، انتهاءً بتركة التاريخ الثقيل. تركة صراعات اللغة والعرق والامبراطوريات والمذاهب والدور. كل ما بين الطرفين صدامي عدائي احترابي، منذ ألفية ونيف. ليست المسألة مناورة إذن ولا تقطيع وقت. بل هو كل الوقت ما يوضع على طاولة غرفة عمليات الحرب الشاملة. هو كل التاريخ، ماضياً حاضراً ومستقبلاً. فحين تخرج مكبوتات الضفة الغربية من الخليج، بأن اسرائيل لم تعد العدو حيال خطر إيران، وحين يرد لسان الضفة الشرقية منه، بأن خادم الحرمين صار «خائنهما»... فهذا يعني أن القتال بات له عنوان واحد من الطرفين: إما قاتلاً أو مقتولاً.
يبقى الضلع الأخير من المثلث المفارقة، أن تكون واشنطن جدية صادقة وصريحة في تأييدها أنظمة الخليج العربية. ضلع تدور حوله كل الشبهات وترتسم فوقه كل علامات الاستفهام. ذلك أن كل من في الغرب وواشنطن يردد معادلة واحدة لتحديد طبيعة العلاقة مع أنظمة النفط: لا شيء يربطنا بتلك التركيبات السلطوية، إلا المصالح. أصلاً هو التاريخ ما يشي بذلك. يذكّرك مؤرخو الغرب بأن الدولة المحورية في ذلك الخليج لم تنشأ إلا مع اكتشاف أول بئر نفطية سنة 1932. قبلها كانت كل المنطقة نهباً لاستعمار فوضوي وفق نظرة الغرب، لا غير. بعد النفط جاءت مصلحة تطويق موسكو الشيوعية بالتطرف الإسلامي. حتى أنها لم تكن مصادفة أن روزفلت جاء للقاء عبد العزيز من يالطا مباشرة سنة 1945. كان الرجل قد انتهى من عدوه النازي، واكتشف قيام عدوه الماركسي. فقرر تطويقه بالدين غرباً وشرقاً لا غير. منذ عقدين ونيف تراجعت المصلحتان. وإن لم تنتفيا كلياً. لا النفط ظل هاجس رفاه الرجل الأبيض. ولا موسكو خصمه العالمي الأول. بعدها انقلب المشهد. جاء بن لادن. وكانت إرهاصاته قد سبقت في اليمن نفسها. فهو ابن حضرموت، وأولى غزواته في بحرها ضد «أرض أميركية» اسمها «يو إس إس كول»، وصولاً إلى زلزال 11 أيلول. يوم وقف دبليو بوش يقول لحلفائه الخليجيين: نريد التدقيق في مناهجكم المدرسية، في فكركم وإعلامكم ومالكم ومآلكم. واستمر الصدام غير المعلن. حتى وقف أحدهم ليعلن أن ما تفعله واشنطن في بغداد هو حرب على عائلته. انتهاء بركله لمقعد مجلس الأمن، تنديداً بما بات في ذهنه «أمريكا»... قبل أسابيع، عاد أوباما إلى التذكير بالثوابت. قال لهم إن الخطر الأكبر عليكم ليس خارجياً. بل هو سخط شعوبكم عليكم... هو هذا الضلع المعتور في المثلث إذن. في هذه الأثناء، لا ضير لدى الأميركي من استدرار نفطه وثمن النفط معاً. ببيع الأسلحة والنفوذ والحماية والثورات في سلة واحدة. لكن الواضح أن مشهد الخليج في ضفته الغربية، لم يعد يناسب البازل المثلث، ولم يعد يعجب الغرب.