في حروب التحرير الوطني، يكون لإطلالة القائد، لرؤيته، لكلماته، قوّة توازي نتيجة معركةٍ رابحة، ويكون لخطابه الفكري والسياسي، الذي يحدد المسار والمصير، دور الجسر الفولاذي للعبور إلى النصر، النصر على الذات ومخاوفها ولحظات يأسها، والنصر للمجتمع الذي يعيد نسج نفسه في سياقٍ يرسمه الخطابُ القياديّ، في المعارك والمفاصل والأهداف والآمال. ولا نصر من دون أمل، ولا مجتمع يحيا، ويستعيد ذاته من الضياع والألم، من دون طريق مفتوح نحو غد مرسوم، بلا ضباب.
الوطنيون السوريون يحتاجون، اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى من أوقات هذه الحرب الطويلة اللئيمة ضد سوريا، إلى الرئيس... وإلى الخطاب.
سيقولون لك: لا تظهرْ كثيراً، لا تتحدّث كثيرا، لئلا يملّ الجمهور أو تبهت الصورة أو يضعف الإقبال؛ هؤلاء يفكرون بمنطق الإعلام، ولا يدركون منطق الحرب، ويظنّون أن مؤيدي الدولة الوطنية، كتلة صمّاء تُدار، ولا تُفكّر أو تقلقُ أو تيأس أو تتعب أو تزنُ التضحيات بالآمال؛ وكلّها، وسواها من المشاعر والأفكار، لا تتحوّل إلى قوة اجتماعية مادية في أثرها الصراعيّ، من دون عملية التفاعل السياسي اليوميّ، بين القيادة والجماهير، وتحديداً، في حالة سوريا، بين السوريين ورئيسهم. وهي حالة نموذجية لما يُعرَف بـ «دور الفرد في التاريخ». صمود الرئيس بشار الأسد، سواء أمام الإغراءات أم في مواجهة التهديدات والتحديات، كان هو مفتاح صمود الدولة والجيش وقاعدتهما الاجتماعية في التصدي للعدوان الأسود على الجمهورية، منذ 2011. وهي مرحلة، أي مرحلة الصمود، تخطيناها، منذ حزيران 2014، حين تكوّنت اغلبية شعبية انتخبت الرئيس تحت النار؛ فحلت مرحلةٌ جديدة، هي مرحلة تأكيد الشرعية الوطنية الدستورية، إزاء مليارات البترودولار التي شنت على الرئيس والدولة والمجتمع والتجربة، حرباً سياسية وإعلامية جبّارة، باسم شرعياتٍ «ثورية» وشعبويّة وليبرالية ودينية ومذهبية واتنية، عملت على تفكيك المجتمع والدولة في سوريا، بحجة تفكيك النظام. ربحنا الحرب الفكرية ــــ السياسية ــــ الاعلامية، وانجلت الصورة، كما هي بالفعل كما نرى ــــ أو ما صارت إليه بالفعل، كما يرى آخرون ــــ عن حرب وطنية، بين الدولة ــــ لا النظام ولا الحزب ولا الأجهزة ــــ وبين الإرهاب، أداة الإمبريالية والرجعية العربية والعثمانية في تحطيم سوريا.
غير أننا، الآن، نراوح في المكان والزمان؛ فلا نتقدّم إلى المرحلة التالية؛ يحدث ما يحدث في الميدان العسكري والأمني، من دون انتاج حراك في الميدان السياسي ــــ الاجتماعي. وهو ميدان النصر في القضية السورية.
ينسحب الفكر السياسي، اليوم، ويتقدم الخبير العسكريّ؛ تدق القلوب وتدور العيون على وقع المعارك؛ بواسل الجيش والمقاومة، يخوضونها، يقاتلون، يخسرون، هنا، ويربحون هناك؛ ولكن الخط العام لحركتهم، يسير إلى الأمام؛ ففي النهاية، لم تعد الثقة بحُماة الديار، موضع تساؤل، ولكن التساؤل، بل التساؤلات، إنما تدور حول القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية. وهي كلها تتفاعل مع الحرب، بالمعنى العسكري، ويهجس بها مجتمع ــــ الدولة، وبغيابها من النقاش العام، لا يبقى له سوى التأرجح بين التفاؤل واليأس، وفقاً لنتيجة اليوم الحربية!
هنا يأتي دور الخطاب. وسيقولون لك: إن خوض الحرب بلا خطاب، أفضل لأنه يجمع ولا يفرّق! وربما كان ذلك صحيحاً في سنوات الحرب الأولى. وسيقولون: إن الحرب بلا خطاب، خيارٌ يترك للنظام حريّة الخيار والقرار، الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي الاجتماعي، الآن، وفي المستقبل. غير أن هذا الوضع الضبابي، المريح، ربما، لجهاز النظام والنخب، ليس، فقط، مقلقاً لقاعدة الدولة الاجتماعية، بل ولا يساعد على تسريع الحسم الميداني أو الشروع في إعادة بناء المجتمع ووحدته وثقافته وآماله.
الحقيقة القاسية ــــ التي ما نزال نواجهها، بالصمت عنها ــــ تتمثّل في أن الحواضن الاجتماعية للإرهاب، ما تزال موجودة، بل تساعده وتهلل له؛ بعضها مذهبي رجعي، وبعضها عملي ــــ واقعي، يتصل، على الأرجح، بحس البقاء، والرغبة في إنقاذ النفس. والعامل الأخير، يمكن الحد من تأثيره، بإظهار قوّة الدولة، وعدم التهاون في محاسبة أيٍ كان يخون حتى لإنقاذ نفسه. الدولة الوطنية ليست جمعية خيرية، بل هي شرعية سيادية وقانونية. وينبغي عدم التفريط بأي حق من حقوق هذه الشرعية، بحجة التفهُّم أو المصالحة أو سوى ذلك.
أما احتضان الإرهاب بدافع مذهبي، فهو تعبير صريح عن فشل سياسي ــــ ثقافي متراكم، وما يزال من دون حل؛ شهدت سوريا ما يزيد على عقدين من استرضاء الانكفاء الرجعي الديني المذهبي. وهذه هي النتيجة: «النصرة»، ولكن «داعش» بالدرجة الأولى، هما مهوى أفئدة جماعات سكانية، ترى، في هذين التنظيمين التكفيريين الإرهابيين، لا في الرابطة الوطنية، تعبيراً عن الذات.
هل تأخّرنا في معالجة هذا الفايروس القاتل؟ تأخرنا كثيراً، وما زلنا مترددين في المقاربة الوحيدة الفعّالة لاستقطاب الأغلبية، واشراكها في مقاومة الإرهاب، أعني الهجوم الفكري القومي العلماني المضاد؛ ربما أن هذه المهمة لا يستطيع القيام بها الرسميون والبعثيون؛ فماذا عن فتح المنابر للقوميين الاجتماعيين واليساريين من حلفاء الدولة والجيش والنظام؟ لا ينفع الصمت على ما حدث، في إدلب وجسر الشغور والسخنة الخ، من تعاون أقسام من المجتمع المحلي مع الإرهابيين، بل تنبغي مناقشته على الملأ، وإدارة معركة اعلامية ــــ نفسية شاملة، تواجه سؤال الهوية في سوريا؛ فمن دون تأكيد وتطوير هوية وطنية (وقومية) سورية واحدة، تتجاوز، بالعلمانية والتعددية الثقافية، الهويات الفرعية، لن يكون ممكنا توحيد المجتمع ضد الإرهاب، ومن أجل إعادة البناء. والإجابة الفعّالة على سؤال الهوية، هي، في الآن نفسه، فكرية وعملية، أيديولوجية وبرنامجية ـ اجرائية معاً، تستجيب للقلب والعقل والمصالح. إن جوهر حربنا، في النهاية، هو كسب القلوب والعقول. وما زلنا، في هذا الميدان الصعب، نتأرجح.
في المستوى الثاني من الخطاب الوطني ــــ المؤسس، في مستواه الأوّل، على الهوية والشرعية، المتطابقتين مع بنية الدولة الوطنية السورية، وسيادتها، ومصالحها، ودورها الإقليمي، ــــ هناك خطاب الأمل؛ ما الذي ينتظره جمهور الدولة الوطنية، ما الذي ينتظره مقاتلوها في ختام الحرب؟ هل تكون كل هذه الآلام والدماء والتضحيات، بلا نتيجة سوى عودة الأمن والأمان، بينما تبقى عوامل التصدّع الاجتماعي قائمة؟ أنسير نحو دولة الفئات الشعبية والمهنيين والمثقفين والكادحين بأجرٍ والمقاتلين... أم دولة رجال الأعمال والمؤلفة قلوبهم؟ أنستنهض دولة حافظ الأسد، دولة الفلاحين، أم هي دولة النخب ذات الامتيازات؟ دولة القطاع العام والتنمية والعدالة الاجتماعية أم دولة الليبرالية الجديدة؟ ولعل الإجابة على هذه الأسئلة ــــ السؤال، أن تكون مدخلا لخسارة جماعات بورجوازية وبيروقراطية، لكنها ستحفز الأغلبية الساحقة من السوريين على الانخراط في الحرب وكسبها.