في اللغة الفرنسية، بجذرها اللاتيني، ثمة ضمير متصل، يرد في أول الكلمة، فيعطيها معنى مزدوجاً رائعاً، إذ يضفي على فقه اللغة أبعاداً خلاقة لفهم أصول الكلمات. الضمير المتصل المذكور هو تلك الأحرف الثلاثة: con. وهي منحدرة من الكلمة اللاتينية cum، ومعناها: معاً. فحين تقول في الفرنسية مثلاً، إنك تعرفت إلى شخص ما، تجد نفسك تستخدم كلمة مركبة من «معاً» ومن فعل الولادة: con – naitre. كأن فقه اللغة يشي لك بأن فعل التعرف إلى شخص، هو تماماً كفعل الولادة معه من جديد.
أو حين تقول في اللغة نفسها إنك أقنعت شخصاً ما، تجد نفسك تستخدم كلمة مركبة أخرى، معناها أن تنتصر معاً:con – vaincre. ليتركك فقه اللغة تكتشف أنه حين تقنع أحداً أو يقنعك أحد، إنما تكونان قد انتصرتما معاً...
اجتماع فؤاد السنيورة مع وفد تكتل التغيير والإصلاح قبل أيام، هو ما يدفع إلى ذهنك بذلك الدرس اللغوي. لم يكن ذلك اللقاء مجرد صورة شكلية بين طرفين سياسيين. كان اختباراً حياً وتجريبياً، حول كيف يمكن لشخصين، حقيقيين أو معنويين، أن يتعارفا، أو أن يقنع أحدهما الآخر.
في الشكل، وكما بات معروفاً، حرص فؤاد السنيورة على إفهام ضيوفه بأنه هو زعيم تيار المستقبل. في كل تفصيل، من أسماء النواب الحاضرين، إلى مكان الاجتماع، إلى طريقة الجلوس وترتيب دور الكلام... كل تفصيل أراده السنيورة ليقول لميشال عون إنك توجهت طيلة سنة ونصف سنة من حوارك «المستقبلي» إلى العنوان الخاطئ. ولذلك لم يصلك رد ولا جواب. أفهم الرجل ضيوفه أنه هو صاحب القرار، وهو الآمر الناهي، سلمياً. فالحريري على سفر دائم. فيما هو من وقف ذات يوم في وجه جميل السيد وإميل لحود، مذكراً بقول محمود درويش: «وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر»... أكثر من ذلك، وفي الشكل دائماً، أوصل السنيورة إلى محاوريه الرسالة المطلوبة: أنا من يمسك بكتلتنا النيابية، وبمجلس الوزراء، وبإدارة الدولة، وبالمجلس الشرعي. فمع من تضيعون وقتكم وتهدرون الجهد؟!
لكن الأهم من الشكل كان طبعاً المضمون. قال السنيورة لنواب عون: تقولون إنكم تشعرون بالتهميش؟ لكن نحن نعيش التصفية. أنتم تعتبرون دوركم مهدداً؟ نحن نرى حياتنا مهددة. بهذه الكلمات البسيطة، فتح السنيورة باب الانطباعين المتناقضين للواقع الواحد. لم يعد من يتكلم شخصاً. صار جماعة. ولم يعد كلامه عن الجماعة الآن، صار عنها في التاريخ، ومنه. في الشكل كان الحوار حول 12 شهراً من الشغور الرئاسي. لكن في المضمر والمقصود، كان الكلام عن 14 قرناً من صراع لا مكان في مؤداه إلا لحي واحد. كان السنيورة يتحدث عن القانون والدستور والميثاق، وعن 7 أيار وحكومة الحريري التي أسقطت وعن سوريا والعصر. لكن ضيوفه فهموا أنه يقصد أمراً واحداً: نحن منذ ألفية ونيف ننتظر هذه اللحظة من الصراع، فحين أزفت ودقت ساعتها، وقفتم أنتم مع حسن نصر الله ضدنا. أي وقفتم مع السيف الشيعي الإيراني على رقابنا. وقفتم مع إسقاط حلمنا وضرب مشروعنا ونسف خلافتنا ودك أمتنا... هكذا خيل للضيوف أن يسمعوا المعاني، أياً كانت الكلمات المقولة.
في المقابل، لم يكن تناقض الحوار غائباً عما قاله الوفد العوني أيضاً. تحدثوا هم أيضاً عن الميثاق ومقتضياته. وعن الدستور واحترامه. وعن قانون انتخاب لم يصلح مرة للانتخاب منذ 23 عاماً. سألوا مضيفهم لماذا ترفضون عون رئيساً؟ فقيل لهم لأنه مع حزب الله. فسألوا ثانية: ولماذا رفضتموه سنة 2005 يوم كنتم أنتم حلفاء حزب الله وكان هو خصمه الانتخابي؟! ألا يعني ذلك أن مشكلتكم معه ليست حزب الله، ولا بشار الأسد، بل مجرد أنكم ترفضون فيه الرئيس الذي يمثل المسيحيين كشركاء في وطن، لا كأجراء في شركة؟! سأل نواب الرابية، جادلوا وساجلوا وحاوروا... لكن في مضمرهم كانت ثمة فكرة واحدة: إذا كنا اليوم نحن الجالسين في حضرة السنيورة، نمثل ميشال عون نفسه، أي ممثل أكثرية المسيحيين، وزعيم تاريخهم المعاصر منذ ربع قرن، وإذا كنا نحن اليوم حلفاء حسن نصر الله كما تقولون، حاكم المنطقة من اليمن إلى غزة كما تتهمون، وإذا كنا آتين إليكم متسلحين بزيارة ولايتي، مشروع الاستعمار الأميركي الفارسي كما تتوهمون وتوهمون، وإذا كنا كل ذلك فعلاً، وممنوع علينا أن نشارك في اختيار قائد للدرك، ولا حتى قائد للجيش، ولا طبعاً رئيس للجمهورية، فماذا سيبقى لنا، أو ماذا ستتركون لنا إذا تبدل بعض ذلك أو تحول كله؟
نظامان كاملان متناقضان، كانا يتحاوران. بل منظومتان، لا لقاء فيهما إلا لمفاهيم هيولية. لكن ذلك نفسه يظل الدليل الإضافي على أن الحوار ضرورة، وأن لا بديل منه. من أجل أن نتعارف، وأن نقتنع من بعضنا وببعضنا. وأن يكون تعارفنا واقتناعنا، مثل تلك المفردتين الفرنسيتين، ولادة مشتركة وانتصاراً مشتركاً.