خلال الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، انتشرت في العراق «شائعة» مفادها أنّ رئيس الوزراء، حيدر العبادي، وضع كتاب الاستقالة من منصبه بتصرف مراجع عراقية، وقد ذهب البعض في وقت لاحق إلى القول بأنّ المرجعية الدينية رفضتها، مجددة الدعم للحكومة. سبق تداول «الشائعة»، إعلان العبادي، من مجلس النواب، استعداده للاستقالة إن قرر النواب ذلك.في حينه، جاء إعلان العبادي على خلفية الجلبة المثارة حول مجزرة قيل إنّ القوات العراقية تعرضت لها على أيدي عناصر تنظيم «داعش» في ناحية الثرثار في الأنبار، وجرى الحديث عن أنّ نحو 140 عنصراً ذهبوا ضحيتها.

بخلاف صحة الاستقالة من عدمها (وقد تصدت لنفيها وجوه من داخل حزب «الدعوة» الذي ينتمي إليه العبادي ومعروفة بمناوئتها لسياساته)، لكن من شأن أجواء كهذه أن تعكس حقيقة المشهد السياسي العام في العراق، والصعوبات التي تواجهها العملية السياسية راهناً، خصوصاً أنّ الضغوط انقلبت، في الأيام الماضية، إلى تحديات جدية مع سقوط غالبية مدينة الرمادي في الأنبار.

معركة تكريت: أول «السقوط»؟

في بداية شهر آذار الماضي، أعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي، من مدينة سامراء ــ بصفته قائداً عاماً للقوات المسلحة ــ «انطلاق الحملة الأمنية لتحرير محافظة صلاح الدين» (التي تضم مدينة تكريت المثقلة برمزيتها)، بمساندة واسعة من قوات «الحشد الشعبي» ومن قوى عشائرية محلية، في معارك كان حاضراً فيها قائد «فيلق القدس» الإيراني، اللواء قاسم سليماني، «لتقديم الاستشارات للقادة العراقيين». في الأول من نيسان، زار العبادي «مدينة تكريت التي تم تحريرها... وتجول في شوارع المحافظة وقرب مجلس المحافظة والقصور الرئاسية، حيث رُفع العلم العراقي» من قبله. لكن الأحداث بين الأول من آذار والأول من نيسان قلبت معادلات عدة، تحديداً بعد عودة مقاتلات «التحالف الدولي» إلى المعارك.
تميّزت عمليات صلاح الدين بأنها بدأت ــ بخلاف مجمل العمليات المماثلة في العراق ــ من دون مشاركة طائرات «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية منذ الصيف الماضي. شكّل ذلك الواقع فرصة أمام العراقيين لكسر معادلة فرضتها الأحداث: الهيمنة الأميركية على الأجواء.

لم تنجح القوى المشاركة في صلاح الدين في كسر المعادلة الأميركية المفروضة من الجو... فخُطِف «النصر العراقي»

وكان البعض، في حينه، يعوّل على النجاح العسكري في تلك المحافظة ليكون فاتحة «عمليات التحرير» باتجاه الموصل شمالاً ــ «عاصمة الخلافة».
كل ذلك لم يحدث. لم تنجح القوى المشاركة في عمليات صلاح الدين في كسر المعادلة الأميركية المفروضة من الجو، لا بل عادت ختاماً مقاتلات «التحالف» إلى أجواء الوسط العراقي (عقدة الوصل) خاطفةً «النصر العراقي»، وذلك بعد توقف المعارك نسبياً لعدد من الأيام (لأسباب بعضها لوجيستي وأخرى سياسية بامتياز).
هناك روايتان لعدم مشاركة طائرات «التحالف» منذ البداية. الأولى تقول إنّ الحكومة العراقية لم تكن تمانع منذ البداية «لكن الأميركيين كانوا يعتقدون باحتمال اندلاع اشتباكات مذهبية واسعة، وبالتالي أرادوا تجنب التدخل منذ البداية، ليستثمروا في نار الفتنة لاحقاً». أما الثانية، فتحيل الأمر إلى قرار واضح باستبعاد «التحالف»، نظراً إلى الإمكانات التي كان يمكن التعويل عليها.
لا توجد رواية متكاملة تجمع بين العوامل الداخلية وبين التأثيرات الخارجية والإقليمية، وبإمكانها أن تفسر قرار بحجم عودة طائرات «التحالف» للمشاركة في العمليات في صلاح الدين، وبإمكانها أيضاً تفسير ارتفاع أصوات قيادات مهمة في «الحشد» ضد هذا الأمر. أي دور أدته الحكومة العراقية برئاسة العبادي؟ لا جواب شافياً.
هناك أحاديث عن تباينات داخلية وقعت بين قيادات عراقية رسمية حول أهمية مشاركة «التحالف»، مثلاً تباين جرى الحديث عنه بين وزير الدفاع، خالد العبيدي، وبين قائد عمليات صلاح الدين، عبد الوهاب الساعدي. تفصيل لا يمكن الركون إليه لتفسير قرار بهذا الحجم.
في المحصلة، أدت المعارك في صلاح الدين إلى «تحرير تكريت» وعدد من الأقضية حولها، لكن المعارك حول مصفاة بيجي (شمالي المحافظة) مستمرة حتى اليوم. وبعد نحو أسبوع من ذلك، جاء إعلان العبادي لانطلاق «عمليات تحرير» محافظة الأنبار، أكبر المحافظات العراقية، التي تتقاسم على شكل مثلث حدوداً مع السعودية والأردن وسوريا.
كانت الخطوة غريبة، إذ يعلم الجميع في حينه أنْ لا قوات قادرة على عملية كهذه دون معطيين: إما مشاركة قوات «الحشد»، وإما دخول قوات من العشائر المحلية بشكل فعّال في المعارك، ودون هذا الأمر عقبات سياسية كثيرة.
عاد العبادي، قبل أقل من أسبوع، إلى توجيه «هيئة الحشد الشعبي» ــ وليس «قوات الحشد الشعبي» ــ بالاستعداد للمشاركة مع القوات المسلحة ومتطوعي عشائر الأنبار لتحرير المناطق في تلك المحافظة. يشرح الباحث العراقي، محمد نعناع، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «هيئة الحشد الشعبي» تشكلت في مطلع شهر تموز الماضي بإعلان من رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، «لتزايد أعداد المتطوعين المستجيبين لفتوى المرجع السيستاني» الصادرة عقب سقوط الموصل وبقية المناطق. يوضح نعناع أنه «بعد تشكيل حكومة حيدر العبادي، حصل تفاهم مع أغلب أطراف الحشد من فصائل ومتطوعين على التزام هيكلية هيئة الحشد التي أصبحت بالفعل رسمية بقرار من رئاسة الوزراء وزاد الاهتمام بها بعد أن تضمنت الموازنة العامة للدولة (إثر توافق سياسي) إنفاقاً محدداً للحشد».
يشير الباحث العراقي في حديثه إلى أنّ «مستشار الأمن القومي، فالح الفياض، يرأس هيئة الحشد الشعبي، ولكن القيادة الفعلية للحشد تتمثل بالحاج جعفر الإبراهيمي (أبو مهدي المهندس) بمعية قادة الفصائل الإسلامية كالشيخ قيس الخزعلي (الأمين العام لعصائب أهل الحق) والحاج هادي العامري (الأمين العام لبدر) وقادة كتائب حزب الله. وهذه الأطراف الثلاثة هي أقوى الفصائل في الحشد الشعبي، وما عدا بدر التي انضمت فعلياً إلى الحشد، فإن الكتائب والعصائب غير منضمين رسمياً. أما الفصائل الأخرى، فقد انمضت كلها تقريباً. أيضاً سراياً السلام غير منضمة إلى الحشد على اعتبار أن مهمتها، كما أعلنها قائدهم مقتدى الصدر، هي للدفاع عن المقدسات».
عموماً، جاء القرار بتوجيه «هيئة الحشد» للمشاركة في معارك الأنبار متأخراً. حتى إنّ القيادي في منظمة «بدر»، معين الكاظمي، أعلن المشاركة «في عمليات الأنبار بعد أن صدر موقف رسمي من رئيس الوزراء، ولو كان متأخراً أكثر من شهر». أما المتحدث العسكري باسم «كتائب حزب الله»، جعفر الحسيني، فقد قال في حديث صحافي: «بعد فشل استراتيجية الحكومة، التي هي بالتأكيد أميركية، في الحفاظ على الرمادي... أصبحت الحاجة أساسية لأن تكون فصائل المقاومة وأيضاً الحشد الشعبي موجودة في الأنبار لكي تحسم المعركة بنفسها».

السياسة و«التحرير»: فخ التوفيق

حين وصل حيدر العبادي إلى رئاسة الوزراء خلفاً لنوري المالكي، كانت بغداد مهددة جدّياً إثر تمدد تنظيم «داعش» والقوى المساندة له في معظم المحافظات غرباً وشرقاً، وكان النظام العراقي قد بدأ بمواجهة أزمة بنيوية يصعب العبور فوقها دون استحداث آلية جديدة للحكم. وعمل العبادي وأقطاب في حكومته، وأخرى داعمة له، على تقديم أنموذج مغاير لسياسات المالكي، يرتكز على آليات حكم «ليبرالية»، تأخذ منحى تثبيت اللامركزية عبر زيادة صلاحيات المحافظات وتنفتح على دعوات «الأقلمة».
يبرر متابعون للشأن العراقي تلك السياسات بالقول إنها تحقق توافقاً سياسياً ضرورياً في ظل الحرب على الإرهاب، وتحقق ـ كذلك ـ الحد الأدنى من الاستقرار اللازم للعملية السياسية. لكن في الوقت ذاته، إنّ النظام السياسي في العراق محكوم بدستور عام 2006 الذي يقود فعلياً إلى «الأقلمة» والتقسيم. مثلاً، عقب الزيارة الأخيرة التي قام بها محافظ نينوى، أثيل النجيفي، لواشنطن، قال صراحة: «الذين يخونون ويتهمون من يطالب بالأقاليم وفق السياقات الدستورية، يجب أن يُقدموا للمحاكمة لنقضهم القسم الذي أقسموا فيه على التزام الدستور».
وتزداد المخاطر على وحدة العراق في ظل الصراعات القائمة في دول المشرق العربي، وفي ظل آليات تدخل غربية، وإقليمية، تقود في هذا الاتجاه. قبل أسابيع، مثلاً، تقدمت لجنة في الكونغرس الأميركي بمشروع قانون يدعو إلى تسليح قوات «البشمركة» والعشائر بمعزل عن حكومة بغداد المركزية! (سخر تقرير نشر في «نيويورك تايمز» من المخاوف العراقية المثارة حيال «المؤامرة»).
وتجد مشاريع أميركية كهذه صدى لها في الداخل العراقي. تصريحات رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، وقيادات من الإقليم الداعية إلى إقامة «الدولة الكردية»، مثالاً. كذلك تتوافق، أيضاً، وسياسات تقودها شخصيات سياسية بارزة في محافظتي الأنبار ونينوى الداعية إلى إنشاء «إقليم سني» (يتقدم تلك الشخصيات أثيل النجيفي، ووزير المالية السابق الملاحق قضائياً، رافع العيساوي). وقامت تلك القيادات خلال الأشهر الماضية بعدة زيارات لواشنطن لدعم تسليح «أبناء العشائر»، وقالوا إنّهم أخذوا موافقة حكومة بغداد قبل إجراء الزيارات.
يشير ما تقدم بوضوح إلى الأزمة التي يعانيها النظام العراقي الراهن، وغير صحيح أنها ظهرت بعد حزيران 2014 (تاريخ سقوط الموصل وغيرها من المناطق)، ما يطرح عدداً من الأسئلة على الحكومة العراقية.
وتحظى سياسات حكومة العبادي الداخلية بدعم أميركي وازن، آخر مظاهره قول الرئيس باراك أوباما، أول من أمس، إنّ العبادي «صادق وملتزم عراقاً لا يستبعد أحداً». ووصف تقرير نشرته وكالة «رويترز» أمس، العبادي بـ»الحصان الوحيد المتاح». وذكر التقرير: «يقول مسؤولون حاليون وسابقون إن السبب الذي يجعل واشنطن تتمسك بالعبادي هو أنها لا ترى بديلاً يمكنه قيادة العراق المتشرذم».

المفارقة أنّ اتباع هذا النهج من قبل الحكومة، لم يسمح بتسهيل «عمليات التحرير»، أو حتى تبرير الاستناد إلى «قوات الحشد الشعبي»، لا بل تبقى هذه القوات محل شك واتهامات وحتى رفض في الأنبار ونينوى ويسعى العديدون إلى منعها من المشاركة في عمليات مرتقبة في الموصل. وأثبتت ظروف معارك تكريت، وراهناً الأنبار، حجم الضغوط الأميركية المتوازية التي تفرضها واشنطن على حكومة العبادي «منعاً لمشاركة الميليشيات الشيعية»، في مشهد سعت، مراراً، من خلاله الحكومة إلى وضع اليد على قرار «الحشد»، ما أحال إلى عدد من الأزمات.
وخلال الحديث إلى «الأخبار»، يشرح محمد نعناع، أنّ «الخلافات التي نشبت بين العبادي وبعض فصائل الحشد لها أسباب كثيرة. منها التدخل الأميركي، وبعض الفصائل لا تقبل بذلك. وهناك أسباب سياسية أيضاً، منها أنّ بعض الفصائل تعتبر العبادي مرناً أكثر من اللزوم مع الشركاء السياسيين، وأنه قد جاء بشركاء ووزراء (ليحددوا) حركة بعض الفصائل».
وبعد نحو تسعة أشهر على «حكومة العبادي»، يقول الباحث، إحسان الشمري، في حديثه إلى «الأخبار»: «يبدو أن أجواء التوافق ما بين الكتل السياسية انتهت نتيجة تصاعد وتصادم المصالح السياسية على حساب إيجاد حالة من الاستقرار السياسي النسبي، وهذا بحد ذاته كان صادماً للعبادي، فضلاً عن أنه بات يتعرض لمشاكسات من بعض القوى الشيعية... وصلت إلى حد وضع عراقيل كثيرة أمام عمل حكومته، كذلك إن الخلافات مع فصائل شيعية لها قوة على الأرض وامتداد إقليمي فاعل، كانت أحد العوامل التي جعلت العبادي يفكر في الاستقالة». يضيف الشمري أنّ «العبادي طلب دعماً لحكومته من السيد السيستاني... وفي تصوري أن المرجعية العليا لا تريد الانغماس أكثر بالعملية السياسية، ووجهت أكثر من انتقاد لأداء الحكومة... قد تكون واشنطن هي التي تضغط على العبادي لعدم تقديم استقالته، لما فيها من عودة إلى مربع تشكيل حكومة جديدة، وهذا بكل الأحوال لا يخدم المصالح الأميركية».

بين المالكي و«التحالف»

«منذ بدء الولاية الحكومية، كان العبادي يجلس على كرسي قلق»، عبارة قالها أحد أعضاء حزب «الدعوة» الذي ينتمي إليه كل من العبادي ونوري المالكي (الأمين العام للحزب).

عمل العبادي منذ
وصوله إلى الحكم على تقديم أنموذج مغاير لسياسات المالكي يرتكز على آليات حكم «ليبرالية»
لم يكن العبادي رجلاً هامشياً في حزبه عشية «الانقلاب» على المالكي. قيل الكثير عن كيفية بروز اسمه لتبوّء المنصب وعن إزاحة المالكي، لكن فترة التسعة أشهر تخللتها حملة كانت تشير إلى أنّ المالكي لا بد أن يعود، وتحذر العبادي من ذلك. من قاد تلك الحملة؟ لا جواب، لكن تقارير صحافية عديدة كتبت في هذا الشأن (أبرزها تقريران نشرا في مجلة «فورين بوليسي» وفي صحيفة «واشنطن بوست»).
في أحد الاجتماعات التي جمعت بين الرجلين، يُحكى أنّ نوري المالكي فنّد للعبادي تلك الأقاويل، داحضاً إياها على اعتبار أنّ «سقوط حكومتك، سقوط لنا جميعاً».
ما هو أخطر من الاتهامات الموجهة ضمنياً إلى نوري المالكي، هو الواقع الحالي لـ»التحالف الوطني» الذي كان، دائماً، يمثّل السند الداعم لرئيس الوزراء في العراق. إذ يبدو أنّ هذا المكون السياسي بات يواجه سلسلة من الأزمات الداخلية، حتى أنّ أقطابه غير متفقين على الشخصية التي ستخلف رئيسه إبراهيم الجعفري (إثر تسلمه منصب وزير الخارجية).
وفي ظل تعقد المشهد السياسي في العراق والصعوبات التي تواجهها حكومة العبادي، وفي ظل، أيضاً، «رمادية» مواقفها، يرى إحسان الشمري، في حديثه لـ»الأخبار»، أنّ «التحالف الوطني لم يعد تلك المساحة السياسية التي يمكن أن يتحرك من خلالها العبادي، أو حتى اللجوء إليها حين يكون هناك ضغط من قوى سياسية أخرى... التحالف متشظٍّ، الصراع على رئاسته، أو حتى التنافس الصامت لخلافة العبادي، جعله متقطع ولا يمكن أن يمدّ العبادي بذلك الدعم السياسي اللازم».