أستخدم، وأدعو لاستخدام مصطلح «الفاشية الإسلامية» في وصف التكفيريين والطائفيين والمتزمتين من أتباع الوهّابية وفروعها والاخونجية وفروعها التابعة للخط الإرهابي الذي بلوره سيد قطب، في كتابه «معالم على الطريق»، كما في تفسيره المعروف «تحت ظلال القرآن». ولا توجد منظمة إرهابية تزعم انتسابها إلى الإسلام، إلا أن تكون وهّابية أو إخونجية في أصولها أو نهجها أو منهجها الحركيّ؛ فحتى المنظمات الشيعية التي مارست الإرهاب، ردحا من الزمن في العراق، كانت تمثّلت منهج الإخونج.
والفكرة المركزية الحاكمة في جميع الحركات الإسلامية أن الجهاد نوعان: دفاعي يندرج في مفهوم المقاومة الوطنية (كما هو حال حزب الله وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية وعصائب أهل الحق العراقية وحركة أنصار الله اليمنية) أو جهاد هجومي (كما هو حال المنظمات الإرهابية).
الجهاد الدفاعي ــ المقاومة ليس فكرة إسلامية خاصة، بل هي فكرة أساسية لدى كل الشعوب بغض النظر عن الدين والعرق؛ لكن تنظيمات المقاومة الإسلامية، تتخذ من التعبئة الدينية وسيلة للتعبئة والتجنيد والحفز على التضحية، لا في سبيل سيطرة شريعة دينية أو أفكار دينية، وإنما في سبيل الدفاع عن الوطن والمجتمع، بلا تمييز.
أما الجهاد الهجومي، فقد عرفته اليهودية والكنيسة الغربية في العصور الوسطى، لكنه يرتبط، فقهيا، بالإسلام، وبالاستناد، تحديدا، إلى تفسير لا ــ تاريخي لسورة التوبة.
وليس هدفنا، هنا، الدخول في حوار فقهي، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن الجهاد الهجومي ليس هو المنهج العام في الفكر الإسلامي، بل هو منهج خاص يرتبط، على المستوى الفردي، بنزعات سيكولوجية مَرَضية لإطلاق الغرائز البدائية (القتل والسطو والاغتصاب)، ويرتبط، على المستوى الاجتماعي ــ السياسي، بالبداوة والعصبية القبلية وعقلية «الأهل والغنيمة».
يفسّر أصحاب النهج العقلاني، النص القرآني من خلال وضعه في إطار تاريخيّ؛ فما ورد في سورة التوبة، ينبغي فهمه في مكانه وزمانه المحددين، تاريخيا، وبخصوص أحداث وجماعات معينة، ولا يمكن سحبها إلى المطلق.
وضع الإمام علي، إطارا فكريا لاستبعاد النص الديني عن السجال السياسي، حين وجّه ابن عباس الذاهب إلى مفاوضة الخوارج، فقال: «القرآن حمّال ذو وجوه ؛ تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا». ثم أنه وضع حدّا لكل صراع ديني أو ثقافي أو عرقي، حين قال «الناس اثنان؛ أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق». وهي رؤية إنسانية مبدئية لا مكان فيها للتكفير أو العنصرية أو الغزو أو إخضاع الآخرين الخ. وبالإضافة إلى المدارس الإسلامية العديدة التي تتبع انسانية عليّ، هناك المدارس الانسانية، الصوفية والعقلانية والواقعية، مما صنع ما يُعرَف بالإسلام السنّي الشامي. ولا أريد الاسترسال، ولكنني قصدت، فقط، للقول إن مصطلح «الفاشية الإسلامية»، لا يشير إلى الإسلام، وكأنه كلّه فاشيّ، بل إلى نهج ومنهج عيانيين، يرتكزان إلى تفسير خاص للإسلام. وهو تفسير يلغي عشرات الآيات المطلقة المعنى الحاثة على التعددية، لصالح آيات محددات مرتبطات بحوادث تاريخية في سورة التوبة، وتحث على مقاتلة الكافرين والمشركين والكتابيين. وهو ما فتح باب تكفير المسلمين أيضا، بادعاء احتكار الاسلام الحقّ، واعتبار كل مَن لا يخضع لهذا الادعاء، كافرا أو مشركا، وجب، بالتالي، حربه.
لماذا لا نكتفي، إذاً، بمصطلح «التيارات التكفيرية»؟ لأنه مصطلح يحيل إلى سجال ديني، بينما الظاهرة التي نواجهها، في العالم العربي اليوم، هي ظاهرة اجتماعية ــ سياسية، ينطبق عليها الوصف بأنها فاشيّة.
لن نقفز، هنا، عن الإشكال الناجم عن استخدام المحافظين الجدد واليمين الغربي، لمصطلح «الفاشية الإسلامية»؛ فهؤلاء انطلقوا من صراع الأديان والحضارات، ووصفوا ظاهرة إرهابية، كان لهم اليد الطولى في تصنيعها، بالفاشية على أساس «أخلاقي»؛ غير أن ذلك لا يُفسد المصطلح بمعناه العلمي.
الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية والعسكرية اليابانية والحركات المشابهة الأخرى التي عرفتها أوروبا، قُبيل الحرب العالمية الثانية، وتسببت في نشوبها، كانت تعبيرا عن لحظة عصيبة من لحظات أزمة الرأسمالية العالمية في مواجهة المدّ الاشتراكي والعمالي. وقامت تلك الحركات على أساس التفوّق العرقي والحق المطلق بإخضاع الآخرين بالقوة، للأعراق الأفضل. وكانت الفاشية تنطلق من استعادة الامبراطورية الرومانية، تماما كما يريد الفاشيون الاسلاميون استعادة الخلافة. وقد رأى الغرب في الحركات الفاشية، بألوانها، حلا لأزمة الرأسمالية بوقف الصراع الطبقي وفرض زيادة الانتاجية في الداخل ونهب الأمم الأخرى وتدمير الاتحاد السوفياتي؛ ثم وجد الغرب، بعد التواطؤ مع الوحش الفاشي ــ النازي، أنه سوف يسحق الجميع؛ وعندها نشأ تحالف دولي كالذي يطرحه الروس والإيرانيون وسوريا وحزب الله، اليوم، في مواجهة الفاشية الإسلامية.
لمَ هي فاشية؟ داعش والنصرة وسواهما من التنظيمات الإرهابية، ليست امتدادا بسيطا للقاعدة التي استعملتها الولايات المتحدة سابقا، في أفغانستان ثم العراق، ولكنها تعبير عن انحطاط شامل ناجم عن استنقاع أزمة النظام العربي الذي بات يقوده، منذ السبعينيات، النظام الخليجي. والأخير لم يعد، كما يتوهم الفكر اليومي، تابعا للرأسمالية الغربية، بل تحوّل إلى شريك، مأزوم مرتين، مرة بسبب تداعيات الأزمة الرأسمالية العالمية التي انفجرت منذ العام 2008، بينما يشهد العالم صعود قوى اقتصادية جبارة كالصين، ومرة بسبب تأزم النظام الإقليمي العربي، في مواجهة الفشل في حل قضايا التنمية والتحديث والديموقراطية الاجتماعية والسياسية.
على هذه الخلفية، الدولية والإقليمية، اندرجت الحركات السلفية الجهادية والاخونجية والقاعدة الخ، في حركة فاشية عنوانها الكبير، داعش؛ وهي، كما الفاشية ــ النازية الأوروبية، تستند إلى يمين جماهيري ناجم عن تفسّخ نظام اجتماعي ــ سياسي.
دعوة السيد حسن نصر الله إلى حلف شامل، يطوي الخلافات جانبا، لمواجهة داعش وأخواتها، هي صرخة الضمير التاريخي؛ صرخة سوف يجد الجميع، غدا، أنفسهم منخرطين بما تدعو إليه، أو نادمين على التواطؤ مع ارهاب سوف يسحقهم حتما.