للمرة الثالثة، تعود تلك المعادلة الثلاثية، بين ميشال عون من جهة وخصومه من جهة أخرى، وبينهم رئاسة جمهورية. وللمرة الثالثة تصاغ قراءة الحدث بالاتهامات وبالقراءات الأحادية والتأريخ من طرف واحد.في المرة الأولى بين العامين 1989 و1990، اتهموه بأنه كان طامحاً إلى الرئاسة. وأنه كان لاهثاً خلفها، حتى طارت. ولم تحطّ إلا في الطائف. ولم تعد من الطائف إلى بيروت، إلا بعد حروب واحتلالات ووصايات وتنازلات وتدمير ذاتي للمسيحيين وللبنان.

يقولون إنه بسبب تعنته خسر المسيحيون نظام الجمهورية الأولى، وطارت الصلاحيات، وصار الرئيس ضعيفاً معزولاً. ويقولون إنه بسبب خسارته لاحقاً، صار الطائف ما صار عليه، وما لم يكن مقدراً له أن يكونه أصلاً. ويقولون كل ما يتباين ويتناقض، ويتهمونه أنه لم يتعلم من تلك المرة.
وعن تلك المرة نفسها، يتهمهم هو في المقابل أنهم كانوا مع مصالحهم. مع أوليغارشية طبقتهم السياسية الحاكمة والناهبة. لم يتصوروا أن يأتي ابن فلاح داعية إلى تكسير فخار تلك الطبقة. فصار الشعب معه. حتى جن جنونهم. ففضلوا أن تطير الجمهورية على أن يكون رئيسها. فضلوا الإذلال على لسان ذاك الأمير، والوصاية من عنجر، والانقلاب على مبادئ السيادة والتوازن والحرية والاستقلال. ذهبوا حتى تفضيل جزمة غازي كنعان، على حرمة خيار الشعب. عينوا رئيساً خلافاً للميثاق والدستور، علهم يتخلصون منه.
مرت الأيام والأعوام، وعادت المعادلة نفسها مرة ثانية في نسخة مطابقة عامي 2007 و2008. اتهموه أنه عاد إلى البلد، طامحاً مجدداً إلى الرئاسة. وأن جنون شخصه وجنونه بها طيراها مرة أخرى. حطت في الدوحة هذه المرة. بعد جرح لبناني ميثاقي عميق اسمه 7 أيار. بعد عامين بالتمام على تاريخ عودته، كأنها مصادفات التاريخ كي نتعلم، ويتعلم هو. عاد الوطن من قطر أصغر من قبل. وعادت الرئاسة أصغر أيضاً. كبل اتفاق الدوحة اتفاق الطائف المكبل أصلاً. أضاف إليه أعرافاً واعتبارات ومعادلات. حتى صار النظام متحللاً والدولة في شلل كامل، لأنه هو مرشح للرئاسة.
وعن تلك المرة الثانية نفسها يتهمهم هو. يقول إن تآمرهم عليه بدأ حتى قبل عودته. منذ زاره مسؤول فرنسي ودبلوماسي أميركي في منزله في باريس، وأبلغاه تفضيلهما تأخير عودته. وخشيتهما من أن يخربط معادلات عزيزة على إدارتيهما. لكنه عاد ليكتشف ــــ وليصدموا ــــ بأن الشعب لا يزال معه. فعاد جنونهم مرة أخرى. جاؤوا بالسعودي منذ اللحظة الأولى حاملاً الفيتو. ومن نسي أو لم يعد يتذكر، فليسأل السيد حسن فضل الله عما وثّق في كتابه. وسؤاله سهل عليهم، فهم معه على طاولة حوار واحدة. ولما لم يكف الفيتو السعودي، جاؤوا باسرائيل. وجاؤوا بالمخابرات الأجنبية لتركيب 5 أيار. وجاؤوا بكل العالم إلى قطر، ليضربوا خيار الشعب له. حتى فضلوا مرشحاً كانوا قبل أسابيع يسمونه على صفحاتهم الأولى «مرشح سوريا لرئاسة لبنان». وحتى أجمعوا على آلية لتنصيبه خلافاً للدستور. فقط كي يتخلصوا منه مرة ثانية.
حتى أطلت المرة الثالثة اليوم، وعلى مدى عامين كما كل مرة. منذ سنة 2014 حتى 2015. وللمرة الثالثة اتهموه بهوس الرئاسة. لا بل إن تمسكه بها صار مرضياً. وإنها آخر معاركه وآخر استحقاقاته وآخر الدنيا. واتهموه بأن سلوكه هذا هو بالذات ما طير الرئاسة مرة ثالثة. وأن تطييرها، أو تطييره لها هذه المرة، سيكون نهائياً. فالمنطقة في قلب البركان. في قعر أتون النار والدم والقتل والموت الوحشي. هذه المرة حين تذهب الرئاسة إلى تسوية خارجية، يقولون إنها لن تعود بالمناصفة كما في الطائف. ولن تعود بالتوافق كما في الدوحة. بل لن تعود، وينتهي الأمر.
وللمرة الثالثة يتهمهم هو. يتهمهم بأنهم هذه المرة تكيّفوا نهائياً مع نهاية لبنان الكبير. تأقلموا ومُسخوا على قياس الولاية الآتية. هم يعرفون أنه لا يزال من طينة لبنان الميثاق الناجز. وهم يحضرون لوحل لبنان الجرم السابح. لا يحتملون صوته ولا مشروعه ولا أحلامه ولا شعبه ولا وطنه. هم يعرفون أنه في لبنان الآتي بعد تسوية سوريا والعراق على قاعدة مناطق النفوذ السني ــــ الشيعي، أو التركي ــــ الإيراني، لا فرق، لن يكون مكان لرئيس في قصر بعبدا. بل لمجرد موظف. أو لمتصرف. أو لقائمقام رئاسة ووطن. أو لوالي سلطان. أو لمقاطعجي أو شيخ أو بيك، بحسب الأصل الحرفي التاريخي لتلك الألقاب الممنوحة لانكشارية زمن السلطنة. هم يعرفون أن لا مكان له. ولذلك يطمئنون في حربه الأخيرة والنهائية ضده.
محطات ثلاث في تاريخين لبلد واحد. من يحكم بصحة أي منهما؟ من يجزم أي القراءتين حقيقة وايهما كذب؟ ثمة خيط واحد رابط بين الفراغات الثلاثة قد يجيب عن ذاك السؤال. سنة 1990، وقبل أن ينحروه ــــ أو ينتحر ــــ سألهم طلباً يتيماً. كتبه عامر شهاب بالفرنسية. وتسلمة رينيه ألا، قبل أن يضيع عند الياس الهراوي. كان طلبه الأخير: انتخابات. سنة 2008، وقبل أن يغدروه كلهم بميشال سليمان، استوقف حمد بن جاسم عند مدخل تلك القاعة الشاسعة في الدوحة، طالباً منه أن يشهد أن القانون تسوية، وأنه لا يريد إلا انتخابات. اليوم يعود إلى المطلب نفسه. فليعط الشعب رأيه. بانتخاب، باستفتاء، أو حتى باستطلاع. فكرة، وقد يكون فيها خلاص أكيد، إما منه، وإما منهم. جربوها، تستحق!